الأديب التونسي / عماد الدين التونسي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "إلي ما يدريش يقول سبول" 


الأديب التونسي / عماد الدين التونسي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "إلي ما يدريش يقول سبول"


نزل الصبي الضّلّيل في قرية ، قريبا من الهضبة ، الورم الوحيد في السهول الحزينة المكشوفة للصيد والقنص والشمس الملكة، عند بيت جدهة. لم يكن يعلم أنه سيخون الأمانة. عانقت العمة عيدة وإبنتها عانس الصبي، صافحه أولادها الثلاثة؛عاتي، .الأخ الأول،الأخ الثاني هو عامر ، الثالث هوعسكر .. 

رحبوا به ترحيبا كريما، أول ما لاحظه الصبي هو شراسة كلاب القرية وغضبها من الغرباء، إنها كلاب مسعورة، لا تكف عن النباح الغاضب، ولا تطيع أوامر أصحابها . كلاب القرية تتضامن مع بعضها في وجوه الغرباء والوافدين، فتجتمع وتنبح وتهجم وتعض على الحجارة. الملاحظة الثانية هي حنان الأهلين الغامر. أهلا يا جدي، تعال كل أيها الجدي...الجِدْيانٌ كثيرة في قطعان القرية وهي ثروتها الأولى، وهي وديعة وتلاعب الأطفال. ضمت العمة الجدي الأجرد ،وعانقته، تلتها إبنتها عانس الثلاثينية في العناق الذي كان أكثر لطفا وحنانا. 

لم أعد جديا ، صرت كبيرا، لمَ يعاملونني كصغير! فكّر الصبي. صباح القرى نحاسي، لامع يكاد يرنُّ من شدة الحر، ظهيرتها ذهبية مشعة في السهول الممتدة كصفحة لا كتابة فيها سوى الأعشاب البرية، لكن مساءها جميل، وليلها أجمل، ساكن، مزين بقناديل الله العظمى وأناشيد الكائنات الطائرة والزاحفة.

الشمام الصغير، هو بطيخ أصفر صغير في حجم الليمون أو أكبر، له رائحة عطرية قوية، بلون البرتقال، طعمه أقل حلاوة، كأنما فقد حلاوته لصالح العطر

لا يعرف لمَ كل هذا الترحيب وفيض الحنان. بحث عن كنهه، لعله تكريم لأبيه فيه، أم لعلهم سمعوا بمهارته في الصيد، أم لعلهم يعرفون عن شغفه بالمجلات والصور، ربما سمعوا بقصته البطولية والشجاعة مع إبنالجزار، أو سمعوا بمراسلاته مع المجلات ولم يردوا عليها حتى الآن. سيصبح مشهورا قريبا، لابد أن تصل الرسالة الملعونة يوما.

صوت غرّاف مجاور، على ثغر القرية يدقُّ المهباج في بطن الأرض ويعتصر من ضروع خفية فيها الماء، فيخرج بقوة من فم أنبوب معدني منصوب على بركة صغيرة، ويتدفق عبر الأخاديد ليروي الحقول الظمأى. المضخة زير معدني كبير، ملوث بالشحم، مربوط على سيور ينفث غضبه بقوة الزيت الأسود ماءً دافقا، رقراقا من أعماق الأرض. الماء حبر الأرض، والحدائق قصائد.

دعوه معهم إلى بستان البطيخ عصرا. ركب عربة من عجلتين يجرها بغل صبور، وصلوا إلى البستان فرأى قناديل البطيخ نائمة قد تورمت على الأرض خضراء من شدة الوجد تحت الشمس، الشمس تجعل الثمار تغلي بالحلاوة. تدغدغ الشمس أعصابا خفية في الثمار فتنضح بالحلاوة والطيب. ثمار البطيخ متعلقة بأوردة دقيقة، أنابيب خضراء طويلة معرشة على الأرض يقول له عاتي: أنظر يا"بلدي"، هذه البطيخة حلوة. يقتلعها له، ويضعها على اليد اليسرى ثم يحزُّها بالسكين باليد اليمنى بمهارة، ويقدم له حزا مثل الهلال، فيبدأ بقضم الحز كما لو أنه يعزف على آلة هارمونيكا الموسيقية، فتبث ألحانا صامتة، حلوة، ولذيذة في الحلق.

- هذا عسل حقيقي، يا عاتي. كيف تميز البطيخ الحلو من الأقل حلاوة؟

قال عاتي: للبطيخة الحلوة علامات وإشارات لا يعرفها إلا العارفون، أهمها الإستواء والإستدارة. البطيخة مثل بنات حواء تماما، الأحسن أن تكون لها غرة بيضاء محجلة في الوسط وعلامات أخرى، أحيانا عندما أتعب من الحكم على عدالة الحلاوة فيها أشمُّ البطيخة من جلدها؟ وقد أدقُّ عليها سائلا فتجيب بالصدى ورجع الصوت.

فيجادل الصبي:

- لكن رائحة البطيخة من الخارج شبه معدومة. ريحها واحد.

يقول عاتي: إنها تبث رسالة ما، أنظر إلى عضات الخُزَز للبطيخ، إنها تختار أحلاها، الخُزَزُ دليل طيب وأمارة، لكنها تنهب الحقول نهبا، نهشة الخُزَز رسالة بالحلاوة. 

فيتذكر الصبي الضّلّيل رسائله العقيمة التي لا تصل. أو تصل فلا يرد أحد من المرسل إليهم.

قطفوا كومة من البطيخ الأخضر الجبس، والبطيخ الأصفر، والشمام الصغير، وهو بطيخ أصفر صغير في حجم الليمون أو أكبر، له رائحة عطرية قوية، بلون البرتقال، طعمه أقل حلاوة، كأنما فقد حلاوته لصالح العطر، وخيار، وعجور. ركبوا على العربة، ونزعوا بعض عرائش البطيخ الزاحفة، وعادوا، تلمع الشمس خلفهم في هالة من الإحتضار وهي تغوص في لجة المغيب المتورم من نهار ثقيل ومجلود بالشمس.

تحلُّ رطوبة المساء بعد يوم قائظ وطويل فتهمين السكينة على الموجودات، وما زال الزيز الحديدي يدقّ المهباج في بطن الأرض، فتسيل المياه في الحقول وفي الأفئدة رطوبة، وتجن الصراصير بالموشحات المسائية المحتفلة بانقضاء يوم حار، تنقصها تغريدات الضفادع التي يشتاقها الصبي في مسقط الرأس. 

في المساء تنشر البنات الفرش على أسرِّة حديدة عريضة تتسع لثلاثة فرشِ أو أربعة، ولها أسيجة عالية، تنصب على زاويها الأربع، أعمدة، و ستائر بيضاء تحجب أسرار النائم، أين تريد النوم أيها "بلدي"؟ هذا سرير لشخص واحد، ما رأيك أن تنام عليه.

فيقول متسائلا: والكلب؟

لا خوف منه، لقد شمَّ رائحتك وصرت من أهل البيت.

جرّب الصبي الضّلّيل أن يختبر مودة الكلب، فتقصد المشي على مقربة من مربضه، فرفع رأسه ثم عاد إلى غفوته، يبدو أنه حفظ رائحته، تعشّوا على ضوء اللوكس المشع بالنور، الذي اجتمعت عليه فراشات وحباحب كثيرة وسقطت صرعى محترقة باللهب. سهروا على دكة عالية، تحت قبة السماء المشعة بالنجوم.

قادته عانس من يده إلى الداخل ومعها قنديل زجاجي، وجلست أمام صندوق خشبي عليه نقوش نحاسية، على شكل أهلة وقبضات وتروس، وفتحته. 

- لديك مغارة سحرية يا عانس؟ هذا كنز من الأسرار.

برزت أثواب مزينة، وشالات ووشائح رقيقة شفافة، ومرايا، وأمشاط، ومكحلة على هيئة طاووس، وقلائد من الخشب، وأخرى من الخرز الملون، وأنطقة وحذاء نسائي من المدينة، وأشياء أخرى ليس له بها عهد.

تناول الصبي قلما وفكر، وضرب أخماس اللوعة بأسداس العشق، فخانته العبارات، وسقط عاجزا أمام الكلمات العنيدة وطلاسمها، أقرَّ بالعجز: لا أعرف الكتابة للبنات إلي ما يدريش يقول سبول


نزل الصبي الضّلّيل في قرية ، قريبا من الهضبة ، الورم الوحيد في السهول الحزينة المكشوفة للصيد والقنص والشمس الملكة، عند بيت جدهة. لم يكن يعلم أنه سيخون الأمانة. عانقت العمة عيدة وإبنتها عانس الصبي، صافحه أولادها الثلاثة؛عاتي، .الأخ الأول،الأخ الثاني هو عامر ، الثالث هوعسكر .. 

رحبوا به ترحيبا كريما، أول ما لاحظه الصبي هو شراسة كلاب القرية وغضبها من الغرباء، إنها كلاب مسعورة، لا تكف عن النباح الغاضب، ولا تطيع أوامر أصحابها . كلاب القرية تتضامن مع بعضها في وجوه الغرباء والوافدين، فتجتمع وتنبح وتهجم وتعض على الحجارة. الملاحظة الثانية هي حنان الأهلين الغامر. أهلا يا جدي، تعال كل أيها الجدي...الجِدْيانٌ كثيرة في قطعان القرية وهي ثروتها الأولى، وهي وديعة وتلاعب الأطفال. ضمت العمة الجدي الأجرد ،وعانقته، تلتها إبنتها عانس الثلاثينية في العناق الذي كان أكثر لطفا وحنانا. 

لم أعد جديا ، صرت كبيرا، لمَ يعاملونني كصغير! فكّر الصبي. صباح القرى نحاسي، لامع يكاد يرنُّ من شدة الحر، ظهيرتها ذهبية مشعة في السهول الممتدة كصفحة لا كتابة فيها سوى الأعشاب البرية، لكن مساءها جميل، وليلها أجمل، ساكن، مزين بقناديل الله العظمى وأناشيد الكائنات الطائرة والزاحفة.

الشمام الصغير، هو بطيخ أصفر صغير في حجم الليمون أو أكبر، له رائحة عطرية قوية، بلون البرتقال، طعمه أقل حلاوة، كأنما فقد حلاوته لصالح العطر

لا يعرف لمَ كل هذا الترحيب وفيض الحنان. بحث عن كنهه، لعله تكريم لأبيه فيه، أم لعلهم سمعوا بمهارته في الصيد، أم لعلهم يعرفون عن شغفه بالمجلات والصور، ربما سمعوا بقصته البطولية والشجاعة مع إبنالجزار، أو سمعوا بمراسلاته مع المجلات ولم يردوا عليها حتى الآن. سيصبح مشهورا قريبا، لابد أن تصل الرسالة الملعونة يوما.

صوت غرّاف مجاور، على ثغر القرية يدقُّ المهباج في بطن الأرض ويعتصر من ضروع خفية فيها الماء، فيخرج بقوة من فم أنبوب معدني منصوب على بركة صغيرة، ويتدفق عبر الأخاديد ليروي الحقول الظمأى. المضخة زير معدني كبير، ملوث بالشحم، مربوط على سيور ينفث غضبه بقوة الزيت الأسود ماءً دافقا، رقراقا من أعماق الأرض. الماء حبر الأرض، والحدائق قصائد.

دعوه معهم إلى بستان البطيخ عصرا. ركب عربة من عجلتين يجرها بغل صبور، وصلوا إلى البستان فرأى قناديل البطيخ نائمة قد تورمت على الأرض خضراء من شدة الوجد تحت الشمس، الشمس تجعل الثمار تغلي بالحلاوة. تدغدغ الشمس أعصابا خفية في الثمار فتنضح بالحلاوة والطيب. ثمار البطيخ متعلقة بأوردة دقيقة، أنابيب خضراء طويلة معرشة على الأرض يقول له عاتي: أنظر يا"بلدي"، هذه البطيخة حلوة. يقتلعها له، ويضعها على اليد اليسرى ثم يحزُّها بالسكين باليد اليمنى بمهارة، ويقدم له حزا مثل الهلال، فيبدأ بقضم الحز كما لو أنه يعزف على آلة هارمونيكا الموسيقية، فتبث ألحانا صامتة، حلوة، ولذيذة في الحلق.

- هذا عسل حقيقي، يا عاتي. كيف تميز البطيخ الحلو من الأقل حلاوة؟

قال عاتي: للبطيخة الحلوة علامات وإشارات لا يعرفها إلا العارفون، أهمها الإستواء والإستدارة. البطيخة مثل بنات حواء تماما، الأحسن أن تكون لها غرة بيضاء محجلة في الوسط وعلامات أخرى، أحيانا عندما أتعب من الحكم على عدالة الحلاوة فيها أشمُّ البطيخة من جلدها؟ وقد أدقُّ عليها سائلا فتجيب بالصدى ورجع الصوت.

فيجادل الصبي:

- لكن رائحة البطيخة من الخارج شبه معدومة. ريحها واحد.

يقول عاتي: إنها تبث رسالة ما، أنظر إلى عضات الخُزَز للبطيخ، إنها تختار أحلاها، الخُزَزُ دليل طيب وأمارة، لكنها تنهب الحقول نهبا، نهشة الخُزَز رسالة بالحلاوة. 

فيتذكر الصبي الضّلّيل رسائله العقيمة التي لا تصل. أو تصل فلا يرد أحد من المرسل إليهم.

قطفوا كومة من البطيخ الأخضر الجبس، والبطيخ الأصفر، والشمام الصغير، وهو بطيخ أصفر صغير في حجم الليمون أو أكبر، له رائحة عطرية قوية، بلون البرتقال، طعمه أقل حلاوة، كأنما فقد حلاوته لصالح العطر، وخيار، وعجور. ركبوا على العربة، ونزعوا بعض عرائش البطيخ الزاحفة، وعادوا، تلمع الشمس خلفهم في هالة من الإحتضار وهي تغوص في لجة المغيب المتورم من نهار ثقيل ومجلود بالشمس.

تحلُّ رطوبة المساء بعد يوم قائظ وطويل فتهمين السكينة على الموجودات، وما زال الزيز الحديدي يدقّ المهباج في بطن الأرض، فتسيل المياه في الحقول وفي الأفئدة رطوبة، وتجن الصراصير بالموشحات المسائية المحتفلة بانقضاء يوم حار، تنقصها تغريدات الضفادع التي يشتاقها الصبي في مسقط الرأس. 

في المساء تنشر البنات الفرش على أسرِّة حديدة عريضة تتسع لثلاثة فرشِ أو أربعة، ولها أسيجة عالية، تنصب على زاويها الأربع، أعمدة، و ستائر بيضاء تحجب أسرار النائم، أين تريد النوم أيها "بلدي"؟ هذا سرير لشخص واحد، ما رأيك أن تنام عليه.

فيقول متسائلا: والكلب؟

لا خوف منه، لقد شمَّ رائحتك وصرت من أهل البيت.

جرّب الصبي الضّلّيل أن يختبر مودة الكلب، فتقصد المشي على مقربة من مربضه، فرفع رأسه ثم عاد إلى غفوته، يبدو أنه حفظ رائحته، تعشّوا على ضوء اللوكس المشع بالنور، الذي اجتمعت عليه فراشات وحباحب كثيرة وسقطت صرعى محترقة باللهب. سهروا على دكة عالية، تحت قبة السماء المشعة بالنجوم.

قادته عانس من يده إلى الداخل ومعها قنديل زجاجي، وجلست أمام صندوق خشبي عليه نقوش نحاسية، على شكل أهلة وقبضات وتروس، وفتحته. 

- لديك مغارة سحرية يا عانس؟ هذا كنز من الأسرار.

برزت أثواب مزينة، وشالات ووشائح رقيقة شفافة، ومرايا، وأمشاط، ومكحلة على هيئة طاووس، وقلائد من الخشب، وأخرى من الخرز الملون، وأنطقة وحذاء نسائي من المدينة، وأشياء أخرى ليس له بها عهد.

تناول الصبي قلما وفكر، وضرب أخماس اللوعة بأسداس العشق، فخانته العبارات، وسقط عاجزا أمام الكلمات العنيدة وطلاسمها، أقرَّ بالعجز: لا أعرف الكتابة للبنات

سُرَّ الصبي من تخصيصه بهذه الأسرار، هذه أول مرة يرى أسرارا نسائية. مدَّت يدها إلى جعبة منسوجة ومطرزة من الخيوط المذهبة ، وأخرجت رزمة من الرسائل.

- أتحفظ السرَّ يا "بلدي"؟

قالت له من يلمع في أنفها وشم أزرق.

- بئر بلا قرار، وفيها ماء عذب لم يذقه بشر، يا عانس . 

-"إلي ما يدريش يقول سبول"!!!

لم أفهم قصدها ،وطلبت منها تفسير كلماتها، لكنها تمنعت وردت عليا : 

أقرأ لي هذه الرسالة.

- ألا تعرفين القراءة؟

- بصعوبة ... 

إنها رسالة عاشق، قرأ لها الصبي الرسالة صامتا، الرسالة موقعة باسم باذخ ولقب كبير: العاشق المتيم صدّيق.

فكر الصبي في الرسالة، إنها رسالة منقولة من كتب الرسائل والعشاق، رسالة عامة كتبها أحد كتّاب الإنشاء، إنها رسالة مدبجة تدبيجا أدبيا، يطفح بالبيان الذي تضيع في فيضه المشاعر الخاصة، لكنها تفيض بالحب الغامر، الحب العام، الكوني، حب الذكر للأنثى، الذي لا يحدُّه حد، عشق فائض، هذا عشق لنساء الأرض كلها يا عانس، ليس عشقا لأنثى واحدة.

حكم الصبي: هذا عاشق أضناه العشق، عاشق شاعر. 

- هل ترى من الصواب الردَّ عليه؟

فكر الصبي وسكت... ولم يحر جوابا.

قالت: أفكر في إرسال ظرف فيه ورقة بيضاء مطوية، تحت جناحيها وردة، ومعطرة. جوابا على رسالته. لن نغدق عليه بالمشاعر، حتى لا يطمع.

فوجئ الصبي، وأبدى دهشة وحيرة، قلَّب شفتيه: تذكر رسائله التي تضيع في زحام البريد من أقصى الشمال الى أقصى إلجنوب.

- ماذا سنكتب فيها؟ 

- ألا تعرف جملا وسبائك من عبارات العشاق يا "بلدي؟ 

تذكر الصبي وقال بعد أمّة: أعرف، لكن هذا يحتاج إلى إعتكاف، إلى ساعة من الصفاء. إتخذ مكانا قصيا، وتناول قلما وفكر، وضرب أخماس اللوعة بأسداس العشق، فخانته العبارات، وسقط عاجزا أمام الكلمات العنيدة وطلاسمها، أقرَّ بالعجز: لا أعرف الكتابة للبنات ياعانس، لقد عجزت. أنا مختص ببريد مجلات الأطفال.

قصد الصبي بركة الماء، وشرب، وضع فمه أمام دفقات الماء طويلا من غير شرب، ثم غمر رأسه بالماء، ثم رفعها ومسح وجهه بيديه، وترك قطرات الماء تسقط على ثوبه، وتبرد جسده

نصب الصبي فخاخ المعاني فلم يصطد جملة واحدة.

قالت: لعل هذا أكرم لي، سأرسل له ورقة بيضاء فيها وردة، مضمخة بالعطر. سنعذّبه قليلا.

- فكرة حسنة، وهل لديك مظاريف. الرسالة الكريمة مثل السيف لها غمد.

قالت: صنعت مظروفاً من صمغ أشجار اللوز.

وأخرجت مظروفا بديعا متقن الصناعة، صندوقا من الورق، له جفن مثل مغلفات الرسائل. يغمض على الرسالة أسرارها.

أودعت الرسالة المطوية في المظروف، وأغلقته بالصمغ، والشكر لموصله.

قالت موصيةً: ستراه غدا في بستانه، أريد منك أن تسلمه الرسالة. هو صاحب مضخة الماء الكبيرة. شاب قوي له خصلات مبعثرة على الجبين اسمه أوسي.

فكّر الصبي: لعل ضربات المضخة هي دقات قلب العاشق المعنّى.

أحسَّ الصبي بالغيرة من العاشق، سيراه غدا، عسى أن يكون بطلا وسيما قويا مثل " دارا منادرا"، أو "جوليانو جيما". عانسلؤلؤة حسناء، قوية، شمّاء، حنونة، ستكون زوجة من كرائم الزوجات. إنه لذو حظ عظيم هذا الشاب.

في اليوم التالي، حمل الرسالة السرية، وعطرها يفوح من عبّه، وسار يقصد المضخة التي نمت بجانبها شجرة توت لا تزال في ميعة الصبا، شجرة واعدة تقف على ساق واحدة، نظر خلفه فرأى عانس في النافذة تلوح له، أحس أنه في مهمة قاسية، وصل إلى البئر غير البعيدة، كان قلب المضخة يدقُّ بقوة، فتخرج المياه من فم الأنبوب الضخم مشكلة قوسا شلالا. سلمّ الصبي على العاشق الذي كان يهدي الماء في السواقي السبيل، ويوزع الماء بما شاءت عدالة الرواء والعطش على جماهير النبات. رأى كومة من الخضار، إقترب منها وإحتار كيف يسلم الرسالة إلى المرسل إليه. 

وجد في الأمر ثقلا وخيانة، لم تطاوعه نفسه، فكّر: لعلها مخزاة ومنقصة. ليس من المروءة أن يوصل رسالة أنثى إلى ذكر، حاول أن يقنع نفسه، فلم تقنع، سيتزوجان... وتحضنه شلبية وتقول له: يا جدي، إنها قصة حب طاهرة، لو كان الأمر مقلوبا لفعل. قرّر الخيانة. لن أسلم الرسالة، هذا عار.

قصد بركة الماء، وشرب، وضع فمه أمام دفقات الماء طويلا من غير شرب، ثم غمر رأسه بالماء، ثم رفعها ومسح وجهه بيديه، وترك قطرات الماء تسقط على ثوبه، وتبرد جسده، كان القلب الحديدي يخفق بقوة، أمسك بالرسالة وفكر أن يمزقها نتفا صغيرة، ماذا سيقول لعانس. هل يكذب عليها أم يقول الحقيقة، إبتعد سائرا بإتجاه بستان البطيخ، كانت شلبية قد سبقته إلى البستان منتظرة، والشمس بدأت تنزلق إلى الغروب محمّرة من الخجل.ربما يقول لها الحقيقة ويصارحها برأيه، إستسلم للقدر وموافقات الحال.

فك مغلف الرسالة، وصنع زورقا من رسالة الغرام، ووضع الزورق في ماء الساقية، فتهادى الزورق ثم تعثر بأشنة، ثم إنقلب وغرق...

قصد ذو القروح البلدة مبين اليأس. يقولون في الأمثال: الهرب ثلثا الرجولة.

لا حقا عرف معنى كلام عانس،"إلي ما يدريش يقول سبول""!!!

فقد تناقله الأهل من جيل إلى جيل ولفظه الفصيح: "من لا يدري ... يقول سنابل"إلي ما يدريش يقول سبول!!!" هناك شابّا أراد الزّواج بإبنة عمّه وأرادته. لكن العمّ رفض طلب إبن أخيه رفضًا باتّا، مفضّلا تزويج إ بنته لرجل مسنّ، فضّله لأجل ثروته.وفي يوم من الأيام، جاء زمن حصاد القمح في الحقول. فخرج الأعمام والأقارب جميعا للمشاركة في الحصاد كما هي عادة أهل البلد. وخرج الشّاب والفتاة ضمن الخارجين وشاركا في الحصاد بالمناجل، يربطون حزم القمح ويكدسونها في خلفهم، وكان الشاب والفتاة يحصدان قبضة أو قبضتين من القمح، ويقفان لإستراق النظر لبعضهما و تبادل نظارات الحب بينهما ، وفي غفلة من الجميع، إختلى الحبيبان وراء كدس من حزم القمح فرآهما أحد الوشاة، فأخبر والد البنت في أذنه فجنّ جنونه وصاح بالشّاب صيحة أفزع بها كلّ الحصّادين، فأعطى الشّاب برجليه للرّيح، ولاذ بالفرار بعد أن حمل حزمة من السنابل، وتبعته جموع الحصّادين في ملاحقة هستيرية جماعية، وجرى الجيرانُ خلف الشّاب وكان يقين الجميع أن الشّاب سرق سنابل القمح، وأن الجموع تجري خلفه لإفتكاكها من يديه.... 

فوقف أحد الرجال من الحصادين فقال لوالد الطفلة أتجري ورائه من أجل بعض السنابل ..فأجابه والد الفتاة بكل غضب وبصوت عالي "إلي ما يدريش يقول سبول""!!!"إلي ما يدريش يقول سبول""!!! " !!!


فذهبت مثلا، يضربُ في كلّ مناسبة لا تجتمع فيها الأسباب بالنتائج، ويظن فيها الظانون شيئا بعيدًا وإحتمالاً بليدًا. وواقع الأمر على خلاف ذلك.

لكنه لن ينسى لا عانس ولا العاشق ولا الرسالة التي غرقت ولا حتى السنابل المهرولة،بين حزم القمح ...










Share To: