القاص و الناقد المغربي عبد الله البقالي يكتب : الجحيم الآن


القاص و الناقد المغربي عبد الله البقالي يكتب : الجحيم الآن


إلى أحمد المرزوقي

  

كم سنة مرت به وهو هنا ؟ و أي شيء مهول ذاك الذي كان ثمنه أحلى سنوات عمره ؟ حلم سرمدي أم سراب خادع ؟. وهم تستر بجلابيب الحقيقة  أم ممكن شق طريق المستحيل ؟

يتساءل ، يمارس وظيفته الوحيدة التي امتهنها منذ عقود خلت،  والمقرونة دوما بقياس مختلف المسافات لأبعاد المكان. وحدة القياس تختلف كل مرة .فحينا تكون خطوة قد تطول أو تقصر ،

و أخرى باطن قدمه أو راحة يده أو أنامله...

عملياته تلك جعلته على دراية تامة بأدق تفاصيل المكان دونما حاجة إلى الكوة الضيقة المنتصبة في أعلى الجحر ، و التي إن كانت قد ضنت عليه بالنور , فقد جادت عليه بالبرودة أو الحرارة والحشرات . إلا أنه مع ذلك فقد كان لهذه الأشياء دورا مهما . فعلى الأقل كانت تمكنه من معرفة تعاقب الفصول في العالم الخارجي .لكن ماذا يجديه ذلك إن كان عمره بشطريه، المنصرم والمتبقى قد صودرا منه . و أنه عاش فيما عاش أياما و سنوات مزيفة ؟

صوت مرتل سورة الكهف يأتيه خافتا على غير عادته و يقطع حبل تفكيره. من المخطئ ؟..لقد واظب هذا القارئ على ترتيل هذه السورة في نفس التوقيت من صبيحة كل يوم جمعة على امتداد عشرين سنة لكن في تلك اللحظة لم يكن قد انقضى أسبوع بكامله على ترتيل المرة الأخيرة ..

ينتابه الشك ..ينادي زميلا له في جحر مجاور .يكرر النداء ثانية وثالثة ورابعة .. تنطلق صيحات التأبين من جحور متفاوتة البعد . يقرفص تحت الكوة و يخترق نفقا مداه عشرين سنة من الظلمة و الرهبة والخوف .يعبره السؤال . كم كانوا في البداية و كم صاروا الآن ؟....

انه يستطيع أن يتذكر بتجل تام أن الرحلة كانت في بدايتها مغرية 

رياح المد كانت تعصف بقوة اتجاه الشطآن. كان من السباقين الذين جروا إلى هناك . أبهرته الأمواج العاتية . كانت مختلفة تلك المرة . فيها مزيج من الألوان و  الأحمر يغلب عليها .

اقترب أكثر ..شدته إليها .. أمعن النظر ..رأى على بسائطها  انعكاسات لصور شتى .أطفال متحلقون حول صحون فارغة ..سلالم بلا أدراج...راكضون اتجاه خط وصول وهمية ..

لمس الموج ،تحول الى بساط ،ركبه .لم يكن وحده .رجالا عتاة كانوا

.في عيونهم كان أمل وعلى محياهم عزم و اصرار وفي جوفهم ظمأ راكمته الدهور .

انطلقوا مع الموج الكاسح . مجالات كثيرة اخترقوها ..قلاع وحصون ..جدران و أسلاك..جميعها تهاوت وتلاشت . وفي غمرة الزحف انفتحت أفواه أسطورية انصبوا داخلها مع الموج الزاحف ليفرغوا في النهاية في صقع لم يكونوا وحدهم من جهلوا موقعه . أشياء مريعة مرت بهم في رحلتهم التي امتد مسارها عبر تقاطع الوجود والعدم . سئلوا عن أشياء كثيرة ..عن علاقتهم بالبحر ..عن اجتياح الموج للقلاع والقماقم ..لم يجيبوا بشئ لأنهم لم يعرفوا من كان السباق لعشق الآخر هم أم البحر ؟

صيحات التأبين ترتفع من جديد ..سقط مرتل سورة الكهف ..وقف ينظر الى انهيار تحصينات ما عادت قادرة على الصمود في وجه سؤال ملح . ماذا يفعل المقاتل حين يصاب في معركة ؟...هل ينزوي لركن آمن يضمد فيه جراحه و يتحسس المنفذ الذي قد يتسرب عبره الموت ، أم يتابع القتال بشراسة و ضراوة بلا مثيل ..؟ هل يتمكن منه نداء الحياة ويسحبه إلى الخلف حيث وجوه يحبها تقف في انتظار عودته ، أم أن الاحساس بالألم يحوله الى ثور هائج يدفعه باصرار نحو متاريس عدوه باحثا عن طلقة رحمة ..؟ أي النوعين هو اذن ..؟

يتوقف عند منتصف الجحر شاخصا ببصره في الجدران . قلبه يخفق بشدة ..أنفاسه تتلاحق بسرعة .. دماؤه تفور . ثور هائج هو اذن . أين متاريس عدوه ؟.. انها تبدأ من هنا , من هذا الجدار . يتجه صوبه ،يهوي عليه بملء يديه ، يضرب ويضرب ويضرب .. تخور قواه ، ينهار ملتصقا بالجدار مرددا بلوعة ..

ارجوكم . افتحوا أبواب الجحيم كي ألقي بنفسي فيه ... افتحوا أبواب الجحيم كي أنصهر في حممه .. افتحوا .. افتحوا .. افتحوا ..

صوت هادئ يأتيه عبر الكوة . آسفون .. لم نبخل عليك بشيء.. ليس لدينا أكثر مما أنت فيه الآن .. إنك في أعلى مراتب الجحيم.




القاص و الناقد المغربي عبد الله البقالي يكتب : الجحيم الآن 




Share To: