الكاتب الصحافي الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (الناصرة.. الحب في حضرة الجمال والقداسة) مع صور بعدسة المصورة الفلسطينية يولاندا جبران..
لا يمكننا النظر إليها كمدينةٍ عادية، فهي أشبه بأسطورةٍ مستمرة وحكايةٍ منسوجة من خيوط النور التي تصل الليل بالنهار، تنصهر في أحضانها حضارات الشرق والغرب وتقف على أعتابها العيون والقلوب لتنحني بإجلال أمام هيبتها في حضرة التاريخ والجمال والحضارة والقداسة التي تفوح كالعطر من ترابها.. عطر مدينة الناصرة..
فهذه المدينة العريقة والتي ارتبطت بالسيد المسيح ومنحته إسمها المذكور في الإنجيل (يسوع الناصري) مدينةٌ ذات طابع خاص وتاريخٍ عريق حير الباحثين وعلماء الآثار، وحرضهم على الغوص في تاريخها الذي يتكشف منه بإستمرار فصولٌ جديدة تؤكد على الإرث الذي تحمله بين جنباتها، خاصة ً مع قلة الدراسات والبحوث حولها مقارنةً بأهميتها ومكانتها.. فهذه المدينة تبعد نفس المسافة عن العواصم الأربعة لبلاد الشام دمشق، بيروت، عمان، القدس وتقدر بنحو ١٠٠ كيلومتر وهو ما جعلها مركزاً هاماً وممراً رئيسياً لأيٍ من هذه البلاد كما أنها نقطةٌ رئيسية للمتجهين جنوباً نحو مصر، فكانت من أهم المدن التي يطمع الغزاة عبر التاريخ بالسيطرة عليها..
وتقوم الناصرة على جبلٍ مرتفع ويُرى منها جبل الشيخ والكرمل والطابور ومرج ابن عامر، وهو ما يجعلها تكتسب أهميةً دينية كبيرة لكونها مسقط رأس السيدة مريم العذراء، وفيها بشّرها الملاك بأنها ستكون أُمّ المسيح، وفي الناصرة نشأ السيد المسيح وترعرع وأمضى القسم الأكبر من سنواته الثلاثين، ولذلك لُقّب بيسوع الناصري ولُقّب تلاميذه بالناصريين وأتباعه بالنصارى، وتُعتبر الناصرة إحدى أقدس المدن في الديانة المسيحية ويؤمّها الحجّاج من أنحاء العالم، وفيها العديد من الأديرة والكنائس والبالغ عددها (٢٤) وأهمّها كنيسة البشارة.. وتحولت منذ العصر البيزنطي لمركزٍ مسيحي ديني وازدادت أهمّيتها مع الحروب الصليبية، كما يوجد بها العديد من المساجد الهامة، وتعاقب على هذه المدينة الفرس والإغريق والرومان والبيزنطيون والصليبيون والمغول وصولاً إلى العثمانيين والبريطانيين ..
واسمها الكنعاني القديم هو (آبل) كما كانت عين العذراء أو بئر مريم الموجودة هناك في ساحة العين تعرف ب (عين آبل)، وقيل أن أصل تسميتها الحديثة تعود إلى جذور سريانية أو آرامية ويحمل هذا الإسم العديد من المعاني التي ليست بعيدةً عن طبيعتها وأجوائها، ومن معاني اسم الناصرة (الجبل المرتفع، مركز أو برج الحراسة، منحدر الماء إلى مجراه) كما تعني أيضاً (النصر، النساك، الصوامع، مغاور النساك) وتعني (الزهرة، البرعم المتفتح، باقة الأزهار، بستان الشجيرات، الزنبقة، الأغصان، الرونق أو الإشراق) وتعددت أيضاً المعاني والتأويلات التي جاءت على لسان رجال الدين والقديسين والتي تعزوها أو تربطها جميعاً بمكانتها الروحية للمسيحيين..
ويأتي تنوع هذه المعاني لتنوع الحضارات والثقافات التي مرت عليها كما مرت على سائر المدن الفلسطينية وعلى معظم بلادنا، ويعود تاريخ هذه المدينة إلى ٩٠٠٠ عام قبل العصر الحجري الحديث حيث تم دفن المواقع المكتشفة في هياكل حجرية أفقية ضخمة، كما تم العثور على آثار تعود إلى العصر البرونزي الوسيط فوجدوا جماجم بشرية مزخرفة، كما عثروا على الكثير من الآثار منها الخزفيات والصوامع والمطاحن مما يعني أنها عرفت الحياة والحضارة منذ وقت بعيد، وقد انتبه الرهبان الفرنسيسكان لوجود بعض الهياكل البشرية في مغارة القفزة والتي قد تعود إلى ٣٠,٠٠٠سنة وربما أقدم بكثير، عدا عن أنها تضم ٥٥ موقعاً أثرياً بغض النظر عن ارتباطها في أذهان الناس بالفترة المسيحية وما تلاها..
كما وكانت جزءاً أساسياً في كل الأحداث الوطنية البارزة التي شهدتها فلسطين من ثورات ومظاهرات ومؤتمرات كونها تشكل أيضاً مركز ثقل سياسي، وتأسس فيها أول مجلس بلدي عام ١٨٧٥، ورغم أن الناصرة من المدن التي عرفت الحضارة باكراً إلا أن إمدادات الكهرباء لم تدخلها سوى عام ١٩٣٠ بينما استثمرت في إمدادات المياه والتي كانت تغذي المدينة التي تحيط بها الجبال والتلال وتقل فيها السهول، وهذه الطبيعة شكلت وجه المدينة وطابعها مما انعكس على أبنائها فهي ملتقىً ثقافي، اجتماعي واقتصادي أيضاً حيث كانت مركزاً لتجارة المنتجات الزراعية والأعمال المعدنية والمجوهرات والجلود والمهن الحرفية كالحدادة والدباغة والخياطة والصباغة وأعمال البناء، كما اعتمدت الناصرة على السياحة خصوصاً الدينية منها وهو ما يجعل العمل في الأشغال اليدوية أمراً هاماً لأهلها، فتنتشر صناعة السجاد والنحاس والخشب المحفور والهدايا التذكارية وأشغال الإبرة المصنوعة بأيدي سيدات الناصرة والتي يعود بها السياح والحجاج إلى بلادهم كتذكارٍ من الأرض المقدسة، عدا عن أن المدينة تضم عددًا من الأسواق التي أخذت تسميتها من المهنة التي تمارس فيها مثل (سوق الصباغين، سوق القهاوي، سوق الخضرة، سوق الصاغة، سوق السكافية، سوق المواستية، سوق الحدادين، سوق النجارين) وغيرها من التسميات، كما تكثر فيها النزل والفنادق والأديرة والكنائس إلى جانب المؤسسات الخيرية والتعليمية، وتعد الناصرة من أعلى مدن فلسطين التاريخية في معدلات التعليم والثقافة وأكثرهم مشاركةً وانخراطاً في النشاطات الفكرية والسياسية وإن كان بعض أهلها قد انتقل بسبب الأوضاع الراهنة إلى مدنٍ أخرى كحيفا والقرى المجاورة لها..
ومع أن نسبة كبيرة من معالم الناصرة هي مسيحية إلا أن المدينة تشهد تعايشاً بين مختلف الطوائف المسيحية والإسلامية وغيرهم كالسامريين، وتتنوع الكنائس فيها إلى عدة كنائس هامة كالكنيسة الأرثوذكسية، وكنيسة الروم الملكيين الكاثوليك، والكنيسة اللاتينية، والكنيسة المارونية، والكنيسة القبطية الأرثوذكسية والكنيسة الأنجليكانية وغيرها من الجماعات البروتستانتية بالإضافة إلى أقلية صغير من الأرمن، عدا عن أن الناصرة شهدت وفود عائلاتٍ من بلاد الشام في لبنان حيث جاءت (عائلة يمين) المارونية وتفرعت إلى ٢٦ عائلة، وعائلة الخوري خليف الأرثوذكسية من حوران في سوريا والتي تفرعت بدورها إلى ٢٤ عائلة كما جاء من حوران أيضاً عائلاتٌ مسلمة شكلوا جزءاً أساسياً من عائلات الناصرة لتجمع في روحها أكثر من روح..
وتعد الناصرة من أكثر وأبرز المدن الفلسطينية التي قدمت أسماءاً هامة في مختلف ميادين الإعلام والآداب والثقافة والفنون على مدار تاريخها، والتي تحاول دولة الإحتلال تقويضه وطمسه والتضييق عليه ومحاولة منع حدوث أي نهضة أو إقامة جامعات عربية فيها، وقد كانت من المدن الهامة التي شهدت ازدهار الصحافة الفلسطينية ومؤسساتها والتي أغلقت جميعاً عقب النكبة بإستثناء صحيفة (الإتحاد) التي أسسها السيد توفيق طوبي عام ١٩٤٤ واستمرت بالصدور في حيفا، واستمر أهل الناصرة في المقاومة ومحاولة إثبات الهوية الوطنية الفلسطينية بإصرار من خلال أنشطتهم الثقافية والإجتماعية التي تربطهم ببيئتهم الأم وصدر لاحقاً صحف فلسطينية مثل (ڤينوس، الميدان، حديث الناس، العين)، كما تحتضن المدينة (مركز محمود درويش الثقافي) والذي يضم مسرحاً وقاعة جاليري للفنون التشكيلية، عدا عن محاولات النهوض بها على صعيدٍ تكنولوجي وإنشاء مدرسة للأطفال الذين يعانون من التوحد، كما تزخر هذه المدينة المتفردة بالكثير من المعالم الهامة والتي سيتم الحديث عنها في مقال منفصل لتأخذ حقها، ونتعرف على سحرها الأخاذ من خلال رحلةٍ جديدة إلى جانب رحلة اليوم بعدسة ابنتها المبدعة المصورة الفلسطينية يولاندا جبران صاحبة البصمة الفريدة والعين الحساسة لكل ما هو جميل، والتي تحمل الناصرة في قلبها كقطعةٍ منها تعانقها وكأنها حب العمر الذي لا يفارق مخيلتها، والتي تستحق بموهبتها كل تقدير واحترام وتكريم لأنها موهبة معجونة بالأصالة في لقاءٍ يصنع المعجزات ويضج بالحب في حضور الجمال والقداسة..
الكاتب الصحافي الأردني الفلسطيني / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (الناصرة.. الحب في حضرة الجمال والقداسة) مع صور بعدسة المصورة الفلسطينية يولاندا جبران..
Post A Comment: