الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "العناق الأخير"


الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "العناق الأخير"





كانت الشوارع خالية إلا من حشرجة الأوراق التي تتقاذفها الريح وبعض القطط التي طمرت رؤوسها في أكياس القمامة غير مكترثة بالذي يدور بالقرب منها.

كان في الجانب الآخر من الشارع الرئيسي للبلدة خمارة قد تهالكت جدرانها حتى انك تحسبها خربة من خرب المدينة التي لا حياة فيها . الساعة تشير إلى الرابعة فجرا حين تراءى طيف تيمور الشقي يبعث من خراب الخمارة. كان نحيلا قد اكفهر وجهه وبدت ندوب الزمن جلية قد عكستها فوانيس الشارع الباهتة، حتى لكأنك أمام لوحة تشكيلة تفنن من رسمها في نحت تفاصيلها.

كان بالكاد يمشي تنتظر سقوطه كلما تقدم في خطوه ، يسير بغير منهج و قد ذهب عصير العنب بما تبقى من لبه بعد ذلك الحادث الشنيع. لم يكن يوما سكيرا ولا يرتاد الخمارات. لم يكن أيضا من المصلين الورعين. كان تيمور يحيى حياة الرضاء والخنوع يعمل في إحدى البلاد البعيدة، يكسب قوته وقوة عياله، يمضي الشهور بعيدا عنهم فتنقطع أخبارهم عنه ولا يدرك هو ما الذي قد يحصل أثناء غيابه. فلا يكون موعد اللقاء قبل عطلته السنوية القصيرة ،كان هذا دأب سنواته السبع . خارت قواه فانتبذ مكانا قصيا متواريا عن المارة المتطفلين ونظراتهم المؤذية ثم انهار باكيا. كانت تشققات جدران البناية تتصدع من فرط بكائه وكأنها تخبره ما فعل بها الزمان ايضا حين تنكر لها الاهل وباتت خالية لا حياة فيها .

حين غادر البلاد ذلك اليوم المشهود لم يكن يدرك ان حياته البائسة ستنقلب اكثر بؤسا. ترك زوجته وابنه الوحيد لا يزال رضيعا . هو الذي إعتاد الغربة.

ركب القارب مع مجموعة ممن تقاسم معهم ظروف الحياة القاسية وغادر الي الضفة الأخرى من المتوسط عساه يظفر مكانا في عليين المنتظرة. لقد وعد زوجته أثناء العناق الأخير أنه سيحتفظ بها في ثنايا قلبه وعقله ولن تأخذه ملذات الحياة والروح منها. وعدها ان سفره هذه المرة وان طال سيعود بعده بوافر المال الذي يعوض لها بؤس الأيام. وعدها انه لن يلمس امرأة دونها وان عرضت عليه النساء عرضا...

كانت رحلة مرعبة لا يدري تيمور كيف نجى منها . لقد كان الناجي الوحيد بعد تلك العاصفة التي عصفت بشبه المركب الذي ركبوه. لا يتذكر كم بقي في المستشفى ومن ذاك الذي أنقذه من هلاك محتوم.

اسمرت اقامته في تلك البلاد البعيدة زهاء الخمس سنوات لم تصله فيها اخبار زوجته وابنه الوحيد سوى مرة حين التقى أحد اترابه صدفة وقد قدم لتوه من هناك.

اليوم يعود إليهم وسيرتوى بعد طول ظمئ ...

لا أحد ينتظر قدومة , فمفاجئة كهذه ستعيد بريق الايام و تلهب نار الشوق في فؤاد حبيبته وقرة عينه الذي لابد أنه قد صار يافعا و وسيما. لم يتغير المكان كثيراً و احس بالألفة كأنه لم يغب ابدا . كان اللقاء حميميا جدا لكن شيئا ما يؤرق تيمور الشقي ،ربما حدسه المفرط...

_من هذه البنت التي يلعب معها ابننا ؟ هل هي ابنة اخي ؟

_ اجابته زوجته بثبات بل هي ابنتك, اكتشفت بعد سفرك أنني حامل لكن لم يتسن لي الاتصال بك فإخبارك ...

انتابت تيمور نوبة هستيرية من الضحك المتواصل ثم اطبق عن الكلام وعقد لسانه لفترة ثم قال :

ابنتي ؟؟؟ لكن كيف ؟ هذا مستحيل ؟ ...

استمر الجدال وتعالت أصواتهما حتى بلغت الجلبة آذان الجيران والاهل ....

حينها حصحص الحق على لسان امه التي لزمت ركن الغرفة منذ تلك الكارثة التي حلت بهم لقد اصابها شلل عضال. …

صعق تيمور المسكين ولم يتحمل ثقل المصيبة التي اصابته في مقتل .ثم خرج حافيا ولا يدري أين ستقوده اقدامه . وهو يردد بصوت مكلوم :

" أ يعقل ان تكون ابنتي من اخي ؟؟

هل الطبيعة لها ان تمنح لقب العم والاب للشخص ذاته ؟؟؟؟

يأتي زمن على الانسان تختلط فيه الحقيقة بالخيال والمعقول باللامعقول فيصيبه الجنون وهو بكامل بإدراكه.





الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "العناق الأخير" 


 

Share To: