قراءة في مجموعة " نعش و موسيقى و أنا الآن أضحك " القاص عبد الحميد الغرباوي بقلم : محمد الصفى
حين تستدرجك هدنة الحكي في زمن كورونا لتقاسم الألم و الفرح و الانتظار
بإصرار ومواصلة رصينة تشي عن قدرة إبداعية رفيعة و راقية، سواء على مستوى الأسلوب أو مستوى المضمون، بإشارات ودلالات عميقة، تمكن القاص و الروائي و المترجم عبد الحميد الغرباوي من إصدار مجموعته القصصية " نعش و موسيقى و أنا الآن أضحك "، الصادرة عن جامعة المبدعين المغاربة طبعة 2021 ، والتي تحتوي على تسعة و عشرين قصة، متفاوتة في الطول والنفس القصصي الذي اعتدناه عليه في أعماله السابقة، بلغة انسيابية شفافة وهادئة، يغلب عليها هدنة الحكي الواصف المحكم، بعيدة عن الحشو و ضجيج التوظيف الشكلي الممل بتوظيفات فاقعة، بغية استدراج المتلقي من وضعه العادي إلى حيث المشاركة الوجدانية لمقاسمة كل ألم و كل فرح و كل انتظار.
لقد حاول عبد الحميد الغرباوي بمجموعته هذه، التي يمكن تصنيفها ضمن أدب الجوائح، لما عكسته نصوصها من مواقف و أحداث عاشها الكاتب أو الآخرين في زمن كورونا و تحت مظلة الحجر الصحي و الوقائي، محاولا من خلالها توثيق هذا الزمن و هذا الحدث و في نفس الوقت حث الآخرين على الكتابة والقراءة وتثقيف الذات، لما تحفل به هذه النصوص في أغلبها متخذا من ذاته قدوة و عبرة ليُحتدى بها، لقد وجد الغرباوي نفسه و دون سابق إنذار في عالم البحث والكتابة، مؤلفا سلسلة كتب في هذا زمن الوباء مستغلا بذلك حالة الفراغ الزمني التي عاشها وغيره، مقسما وقته بين العائلة والقراءة والمطالعة والتوثيق والتجميع والفرز والمراجعة والكتابة إلى جانب الرسم الذي يبقى إحدى هواياته المفضلة.
استهل عبد الحميد الغرباوي مجموعته بإهداء خاص إلى من اسماهم بشهداء الواجب، للذين ضحوا بوقتهم و أهلهم لأجل إنقاذ أرواح من فيروس كورونا ( كوفيد 19)، استهلال يبتغي من وراءه القاص وضع القارئ في الإطار الجامع لنصوص المجموعة و تهييئه لاقتحام مواقف قد تكون مؤلمة أو ساخرة أو مفرحة أو مبهمة، بحكم استحالة إحاطته بالمعلومات الخاصة بهذا الوباء في ظل كثافة تداول المعطيات والأخبار حول المرض والأرقام المتجددة حوله وطول واستمرار فترته، فضلا عن غموض الفيروس وعدم تحديد أسبابه " كلهم يحاربون عدوا لا مرئيا، لا تلتقطه عين مجردة، قد يكون خلفهم أو أمامهم، أو يعتلي أكتافهم التي تقيها ملابس أشبه بملابس رجال الفضاء" ص: 87. مصورا لنا تلك المواقف و المشاهد المستقاة من وسطه العائلي و الجيران و الأصدقاء و كل ما يدور في فلكه القريب، على شاكلة لوحات تشكيلية رُسِمت بطريقة متناغمة لونا و شكلا، أو صورة واقعية سردية فوتوغرافية تجسد أحداثا وقف القاص عبد الحميد الغرباوي أمامها مكتوف الأيدي لينقلها لنا فعلا جامدا وسط إطار، هي إذن مواقف تقدم لنا هواجس و انفعالات ذاتية - ذات القاص- نفسه من بعض ما صادفه في الواقع من أحداث و مواقف مترعة بالهموم و الآلام و أحيانا بالخوف و الرهبة و السخرية عند شريحة اجتماعية معينة منها القريبة جدا و منها شبه القريبة، فيما العنوان الذي اصطفاه عبد الحميد لمجموعته القصصية " نعش و موسيقى و أنا الآن أضحك " فهو مفتاح لها ورسم عام لما تضمنته المجموعة من تفاعلات و مواقف، و ملخص موجز لها، حيث نستشف منه أنه رغم ما خلفته كورونا من فقد للأرواح و مهما أثرت في نفوس البشر اجتماعيا و اقتصاديا، فمازالت الحياة مستمرة تعزف لحن الأمل و الحب في نفس كل من لم ينل منه الوباء، و مادامت هناك حياة و أمل فمازالت هناك ابتسامة و ضحكة، لو كانت من قبيل السخرية الذاتية .
و حين حديثنا عن المرتكزات الفنية التي اعتمدها القاص الغرباوي عبد الحميد في مجموعته فإننا نستخلص :
1 ) الوصف من خلال عين القاص لا من خلال عين أبطاله و علاقتهم به " عندما أستيقظ، أتناول فطوري،ثم أعتكف في مكتبي، و أفتح مجلد الفيسبوك و أشرع في تصفحه.. " ص، 52( الكمامة )" ارتمينا في أحضان بعضنا البعض و تعانقنا و تبادلنا القبل الحارة، و بعد ذلك عشنا فترات توثر شديدة " ص، 76 ( عناق )، بحيث يشعر القارىء أن ما يتحدث عنه الكاتب من وصف ذاتي هو نفسه ما يحدث معه و أن القصة تتحدث عنه، فهي قصته هو.
2) الرصد الخارجي للعالم، لأبطاله و للأشياء و الأماكن " أيتها البلاد المعبأة بالدمار و العملات الصعبةن الممتلئة بالجثث و الشحاذين " ص34 ( الشاعر ) " قرأت في ملامحه رغبة ملحة في معرفة نوع عملي في الداخلية، فاستجبت لغبرته الدفينة، و قلت: أقرأ كتبا ... " ص،38 ( الشاف) ، " نص ( زاوية نظر) " ، " أمرح، أحرك أطرافي في مساحة الحجر المتاحة لي " ص 87 ( ليس سهلا)، لقد استطاع الغرباوي من الاشتغال على بناء شخوص قصصه و أنسنة الحدث بثبات، المفتوحة منها كالمقهى و الحديقة و الشارع و المغلقة كالمنزل و و الغرفة، مشكلا منها حالات نفسية تتوافق مع الواقعية الاجتماعية التي سادت إبان مرحلة الوباء اللعين. باتا في الجمادات الروح والحياة وكأنها شخوص أخرى و لها أدوار رئيسية في الحدث.
3) السرد المختزل ذو الدلالات العميقة،مع العمق في الصورة، نصوص : " المشهد " " زاوية نظر " " العمر " " انعكاس " " زوربا " " بلياردو " وحيث أن قصر حجم القصة لا ينقص من قدرها ووظيفتها الجمالية والقيمية، أو طرحها الايديولوجي أو الإجتماعي فالقاص تعمد الاقتصاد اللغوي لدرايته و تمكنه البالغ بالمعجم اللغوي و التوظيف الأنسب للكلمات و العبارات فكان توظيف التضمين النصي مع التكثيف المقرون بالدلالة و الرمزية و سعة الخيال، كما قال مارت روبرت : “القصة القصيرة تقوم بعملية امتصاص الأنواع المحاورة لها عبر تقنيات محددة ، تكثيف المعنى والإحالة والتلميح أو عبر الاشتغال على الزمن بالحذف واستعمال الجمل القصيرة مستغنيا عن الفضلات والزوائد وأدوات الربط والخطاب الحجاجي وتشتغل على علامات الترقيم لتعميق الدلالة ولحصر التأويل حينا وانفتاح الدلالة حينا آخر حسب قصد القاص وغايته “
4) الحوار الذي اعتمد في أكثر من مناسبة، لتقريب القارئ إلى الحدث و فك شفرات و قفلة هذا الحدث ، مع معايشته لانفعالات شخوصه، فتجده حوار الذات مع الآخر أو حوار الآخر مع الآخر، كما هو الحال في نص " الفيروس " و " حوار " و أخرى تجده حوار يجمع بين الذات و الذات نفسها كما في نص " مواجهة غير متكافئة " إلى جانب مزجه في بعض النصوص بين السرد القصصي و أسلوب التداعي السينمائي لما له من وقع و تأثير على القارئ كما في نص " فيلم " حيث يبدو للقارئ أنه أمام حالة سينمائية دون إضاءة أو ديكور و موسيقى و .. بقدر ما هي إلا حالة سردية اعتمد فيها القاص الغرباوي على الرسم بالكلمات و كيمائية الصور محولا بمفرداته خيال القارئ إلى مشهد سينمائي حقيقي.
5) تقريب مفاهيم و دلالات رمزية للقارئ من خلال عرض تراجيم مختزلة لنصوص عالمية سردية أو شعرية كما هو الحال مع نص " بلياردو " الذي شبه فيه الكاتب الناس بكرات البلياردو التي تصيبها الكرات و يتم إسقاطها في الحفرة بواسطة تلك العصا السريعة الانكسار، و لا تتلقى الضربات بقدر ما تسددها هي، واصفا حامل العصا بالمتقن للعبة، فتارة قد يضربها بلطف و أخرى بقوة، بهدف خلف الفوضى، مشيرا أيضا أن هذه اللعبة ليست بالحديثة و لكن قديمة قدم الإنسان، فيما نص ( الشاعر ترنيمة / كولاج) تشير إلى رسائل مشفرة لمن يعنيهم الأمر .
لقد حافظت المجموعة على نسقها السردي دون تكلف بعيدا عن الاستطالة في البوح الذاتي معتمدة على الوصف الدقيق و التصوير المبدع و بناء العلاقات التعبيرية في إطار سلس، مستندا في صياغة قصصه إلى شاعرية الإيحاء، والتضمين، والوصف، و استعارة، والنعوت، والأحوال، والأفعال الوصفية، والصور البلاغية المجازية القائمة على المشابهة، والترميز، والإحالة. و التناص، إضافة إلى كثرة الاسترسال في الجمل، وسرعتها الانسيابية مثل اللقطات السينمائية السريعة والوجيزة، مما حولها لمتعة قرائية، ففي نص " الاحتجاج " نجده قد زرع في الكتب روحا للاحتجاج لحد البكاء، بعد أن فقدت ملمس صاحبها الذي هجرها، جاعلا لها حال و لسان " لعلها بدورها تتأمله، تتساءل عن جدوى قربه، إلى جانبه سنوات دون أن يقربها ، يلمسها، يربت على ظهرها... " ص5، أو حين جعل للفيروس يدا " يد الفيروس اللعين حالت بينهم ، فرقت، باعدت بينهم " ص86 ( ليس سهلا ) ، أو حين شبه عالم الرسام بقوقعة هو داخلها نتيجة اللامبالاة التي يلاقيها و مدى تجاهله من الآخرين " داخل القوقعة الصغيرة الوحيدة التي نجح في رسمها، اسمع نداءه، اسمع صدى صوت استغاثته .." ص9 ( استغاثة رسام)، ومن خلال ( صمت ) يمكننا الوقوف على وصف لكن بقيمة قيمة رمزية بالغة من خلال " رغم أنه لا يرى عينيه من خلف الزجاج الحالك إلا أنه أحس أنهما مستقرتان في وجهه، ... الشمس تحجبها غيوم كثيفة .. كأنها تبشر بمطر وشيك " ص 71 و في نص ( أصابع معلقة في الهواء ) حيث أصبح اللمس باليد محظورا في زمن كورونا بعد أن كان رمزا للسلام، كمقارنة و مفارقة فريدة، ليبرز أهمية الكتاب في حياته و الذي اعتبره كائن مفعم بالحياة، و مدى تعلقه به مهما فرض عدم اللمس ذاك، مستشهدا بكتاب و أدباء و علاقتهم بالكتاب كأناتول فرنس الحائز على جائزة نوبل للأدب و ستيفن بلومبرج. كما لم يفت القاص عبد الحميد الغرباوي من إبراز قيمة المرأة و مكانتها لدى الرجل في ظل تلك الجائحة التي كادت أن تعصف بالجميع من خلال نص ( الكمامة ) حيث جعلت الرجل يقدر دورها و يتعرف عليها مجددا عن قرب في أيام الحجر الصحي حتى كاد و بلغة كوميدية، أن يتزوج الرجل زوجته مجددا " ازداد حبي لها، بل استيقظ من سباته و انتعش ... أنه خلال الحجر أحب السيدة التي تروح و تجي أمامه .... فأحبها وقرر أن يتزوجها " ص 51، و تزيد العلاقة الحميمية في نص ( الفيروس ) ص 47، " لم ترد عليه بل ازدادت التصاقا به و كشفت طرفي القميص عن صدر الرجل ثم أزاحت وجنتها على صدره ورفعت عينيها إليه " لتبقى المرأة لدى الكاتب هي ذاك الكتاب البيضاء أوراقه، يمكنك أن تخط فيه ما تشاء ووقت ما تشاء و الحفاظ عليه من الترهل، وصف و استعارة بليغة لا يمكن أن تصدر إلا من كاتب له باع طويل في الحبكة و الأسلوب البلاغي المتحكم في مفاتيحه، من حجم عبد الحميد الغرباوي الذي تبقى قصصه مفتوحة يقول فيها للقارىء أكمل نهايتها و مآلها، بكل عفوية وانطباعية راسما المشاهد والأحداث والشخصيات بأحلام فرح قليلة وانكسارات كثيرة، هي واقع معيشي يومي ليس بالمغرب فحسب بل بالعالم العربي كافة، سواء في ظل جائحة كورونا أو غيرها، لقد استطاع السي عبد الحميد أن يضع بين يدينا عالم واقعي متخيل وان يحول سيرة الذاكرة الفردية والجماعية إلى مجموعة قصصية ممتعة وهادفة تستحق القراءة و التمعن و استخلاص العبر.
قراءة في مجموعة " نعش و موسيقى و أنا الآن أضحك " القاص عبد الحميد الغرباوي بقلم : محمد الصفى
Post A Comment: