الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أماندا" 


الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أماندا"


    بكى كثيرًا، ولم يَنَمْ تلك الليلة؛ التي هُزِم فيها منتخب بلاده لكرة القدم. أصابته حالة غريبة وهو يتابع المباراة عبر شاشة التلفاز، تارةً يقف ثم يجلس أو يستلقِ على سجادته أرضًا، وتارةً يخرج ويأتي سريعًا، كأنه يبحث عمّن يطبطب عليه ويداوي آلامه، كان شديد التأثر والتفاعل مع أحداث المباراة، يُبصر بقلبه لا عينه.


    ردد أكثر من مرة: هؤلاء لا يشبهون الطموح ولا البطولة، وليس من حقهم تمثيل هذا البلد الشامخ وهذه الأُمة العظيمة، يتساءل: ألا يعلمون أن هذا الشعار الذي يرتدونه، يمثل أُمة كثُرَتْ هزائمها، تتوق لنصرٍ عابرٍ يُنسيها بعضًا من خيباتها ومآسيها؟.. 


    " من حق هذا الشعب أن يفرح ولو لمرةٍ واحدة، بعد كل هذا الموت والدمار"، قالها (أماندا) صاحب الـ 15 ربيعًا وهو يُطفئ جهاز التلفاز بعد أن أطلق الحكم صافرة انتهاء المباراة، بهزيمةٍ نكراءٍ لفريقِ منتخبِ بلاده. شَعَر أماندا في تلك اللحظة أنه يبغض هؤلاء اللاعبين فردًا فردًا، لأنهم ليسوا أهلًا لتلك المكانة، مثلهم مثل الساسة الذين يتوسدون كراسي الحكم الوثيرة، ثم يُديرون وجوههم " البائسة" عن الشعب، وتبدأ ممارسات العجرفة والاستبداد، فلا يُرى منهم خيرًا ولا أملًا، سوى الشعارات الزائفة و الوعود الكذوب.


     قَدَر أماندا أنه خرج من وسط كل ذلك الحطام والبؤس، عاشقًا لكرة القدم؛ يُمني نفسه بمستقبلٍ تتحقق فيه الأحلام و الوعود بأمةٍ تُباهي وتفخر ببنِّيها. (أماندا) ظل مشاركًا أساسيًا في كافةِ الأنشطةِ الرياضيةِ بمنطقتهِ الريفية الوديعة، البعيدة عن صخب المدن و العواصم... خلق لنفسه شهرة واسعة في تلك البقعة المحدودة من أرض بلاده يلعب الكرة بحبٍ ومسؤولية، ولا حدود لطموحه وأحلامه.


   غرفته الصغيرة مليئة بصور عمالقة الساحرة المستديرة (مارادونا.. زيدان.. ميسي.. أبو تريكة.. رونالدو.. محمد صلاح..) ويعرف قصصهم جميعًا، وكيف وصلوا؟ ويحاول جاهدًا أن يسلك الدرب الصحيح ليصل إلى ما يستحق... نجح أماندا في امتحانات الثانوية، و استحق جائزة خاله التي وعده بها قبل سنوات، حين زارهم في دارهم بعد أعوامٍ من الغربة والفراق، وتعجَّب حين رأى جدران المنزل مغطاة بصورِ كِبارِ اللاعبين، فسأل عن السبب فجيء له بأماندا ليشرح القصة، أقبل والحلم يبرق من عينيه الصغيرتين، وأخذ يشرح لخاله قصة الصور، ويُعرِفه على (رونالدو) و (صلاح)، وحكى عن نفسه وموهبته، وأنه سيصبح لاعبًا عالميًا في يومٍ من الأيام، تجاوب الخال مع الشغف والحماس بإيمانٍ كبير، وقال لابن أخته: يجب أن تعلم يا بُني أنه في هذا العالم، يوجد ملايين من الموهوبين والبارعين في لعبة كرة القدم، ومع ذلك يوجد (ميسي) واحد، و (رونالدو) واحد و (أبو تريكة) واحد، أتعلم لماذا يا ولدي؟؛ لأنهم لم يستسلموا كما فعل غيرهم، فظلوا وراء أحلامهم حتى تحققت.. إن الموهبة وحدها لا تصنع نجمًا ناجحًا، ولكن بالعمل والتحدي والإصرار تتحقق الآمال. ازداد أماندا حماسًا وبدأ أكثر وعيًا في التفكير نحو مستقبله، ولم ينسَ الخال أن يُقدِم وعد العمر لأماندا، وطلب منه الاجتهاد في دروسه، واحراز نسبًا عالية، وسيتكفل بسفره خارج البلاد ليبدأ مشواره الاحترافي مع عشقه.


    وبما أن حدود أحلامه السماء، لحظة إنجاز الوعد، لم يختر عاصمة بلاده أو عواصم قريبة، لكنه اختار أكثر المدن شهرةً في عالمِ كرةِ القدم، وغادر قريته الصغيرة، وفي باله أن اسم هذه القرية سيحفظه التاريخ... قالها (أماندا) لأمه حين ودَّعها: "لا تنسي متابعة أخبار الرياضة باستمرار، حتى لا يفوتك سماع اسمي واسم هذ المكان" فضحكت ورفعت أكفها إلى السماء، واحتضنته بدموعها، فوعدها بأن يكون ذلك الحدث قريبًا، ثم صاح اليها وقد ابتعدت خطواته عنها وعن الديار: "أمي اتركوا صور زملائي اللاعبين على الجدران كما هيَ، سأُزيلها بنفسي وأضع واحدة يومًا ما"، أشارت إليه بالقبول، و لوّحت له بالسلام.. لم يلبث أماندا حتى بدأ خطواته نحو القمة، بدخوله في فرق الناشئين، وكان دائمًا محط أنظار مدربيه وإعجاب زملاءه، فوقوده الشغف ومُحركه الطموح وعجلاته الحلم، مؤمنٌ بقدراته ويعرف مكامن قوته، وعازمٌ على أن لا يقبل بأقل مما يستحق، يقينه راسخ بأن السماء قريبة و الحلم الكبير قريب وسعادة جماهير بلاده قريبة.


    قصة (أماندا) بدأت في مساحةٍ ضيقةٍ من الأرض، لكن النهاية ستكون عظيمة؛ و سيتعرف العالم على نسخةٍ جديدةٍ من "بلاد الهزائم"، فقد غيَّر أماندا الصورة السوداء بأخرى مُشرقة ناصعة، وحجز لنفسه صفحةً في تاريخِ كرةِ القدم، وفي باله اسعادِ أهل قريته وبلاده، حمل أماندا على عاتقه وعد الفرح لشعبٍ بأكمله، ورهانًا برفع علم دولته عاليًا.. وحتمًا سيفعل، فقط ترقبوه، فلا مستحيل مع قوة العزم والإرادة.




الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد تكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أماندا" 



Share To: