الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فنان تطارده الأقدار" 


الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "فنان تطارده الأقدار"


صاحب عفة،هذبته الآداب،وأحكمته التجارب ،له تواضع العلماء وفهم الفقهاء،وجواب الحكماء، يتلألأ وجهه بأنوار المودة ،يغزو القلوب بعذوبته،إذا صمت جلله الوقار ،وإن تكلم سماه البهاء،كريم الشمائل،صامت إلا عن الحق، إذا وعد وفى بوعده لأنه يحترم الناس ويقف إزاء ما يقول، لا ينطق إلا بالّطيب من الكلام،كأنما فمه روضة ،ولسانه ريحانة ، ولا ينثر إلا الجمال،يمسك نفسه فلا تراه إلا مبتسمًا ، رقيق الشعور بليغ اللسان، بارع الذهن ، مجد في طلب العلم، جميل الابتسامة،عذب الحديث ،له عينان حاذقتان يرى فيهما الأمل وسط دياجير الظلام،له طموح من غير طمع ،أبي من غير تكبر،يحب الناس، ويخاطبهم على قدر عقولهم، يشع على من يجالسه الإتزان والتفكير الهادئ وحب الحق ،أقواله تقع في النفوس موقعًا عظيمًا ،ما أروعه من رجل كم يتمنى لو كان السرور أشجارًا ليزرعها في كل مكان حتى ترتسم الفرحة على وجوه الجميع،نظراته نظرات مثقف عميق،تتراكم الكلمات في شفتيه وبمقدوره أن يقول الكثير إلا أن سحابة أسي دفين تعلو محياه يصمت بشرود كأنه في ملكوت آخر، ويوحي ذلك الصمت بشعور غريب،بأن من لم يتذوق الفن قد تغيب عنه الفراسة ومن غابت عنه الفراسة ينزل الجاهل الوضيع في مكان العالم الرفيع فيختلط الأمروتتهاوى الأخلاق والأذواق ويتوارى العلم ويتصدر الجهل ويهوي المجتمع في وادي سحيق.ينشد أشعارًا حرة الوزن،مجروحة الحروف، يسرع في مشيته،يخطو يتوقف، يطيل النظر، يخرق الأرض بعينيه مدة من الزمن، يحدق بهما في السماء، يقرأ تجاويف الفضاء، يطلق أنفاسًا ساخنة بين طبقات الهواء، يستأنف السير وهو يمضغ أحزانه الداخلية، التي تنم عن جرح عميق سري في الأوصال وبدد الآمال، لا يتحدث إلا قليلًا ، وإن تحدث أوجز وأفاد ، تنساب الكلمات من فيه كالدر المنثورة ،يصمت المكان من حوله ،يومئ سامعيه للقادم من بعيد حتى يجلس بلا تشويش، رسخ في ذهن العامة بأنه شاطح، فإن مر بهم يتغامزون، يقطع غمزهم بحركة درامية تذهلهم ثم تضحكهم ثم تجعلهم يتوارون خجلًا وراء عيونهم المعتذرة ، عشق الفنون منذ نعومة أظفاره حتى صارت حلما يراوده،اقترب من تحقيق ذلك الحلم بدخوله معهد الفنون ،برع في عالم المسرح،بل النحت والرسم،أذهل زملائه ومعلميه، توقف في منتصف الطريق لاعتراض الأسرة، بعد أن وشى به الحاقدون بأن من يتخرج من ذلك المعهد ما هو إلا صعلوكًا لا طائل من ورائه، اسودت الدنيا في عينه لحين،جمع قواه واستأنف الحياة بطريقته، كان المسرح عنده حاضرًا، بل أن الحياة عنده مسرحًا يمثل عليه البشر، خرج كعادته في كامل أناقته المعهودة، مشي في خطوات محسوبة، توقف في منتصف الطريق،أخذ يؤدي مسرحًا منفردًا، جذب إليه المارة بأفواه فاغرة، ونظرات ساكنة،وأنفاس حبيسة،أسرعت في خطاي لأري ماذا هناك، ازدحم الناس، أسعفتني فرجة تصيدتها بأن حملتني إلي أول الصفوف لأرى مشهدًا صامتًا ينم عن عبقرية متفردة ،كانت حسرتي أنها نهاية العرض، تسلل من بين يدي الجمهور كالنسمة،تاركًا على وجوههم بسمة،أسرعت في اللحاق به، ندهت عليه، توقف دون أن يلتفت، وقفت إلى جانبه، مددت إليه يدي وقلت: 

تبدو فنانًا  تطاردك الأقدار!

نظر إليّ برضا، ثم حمل رأسه إلي السماء، وحدق مليّا، ثم خرق الأرض بنظرة فاحصة،ثم ربت على كتفي، وقال:

لله درك يا أخي، هكذا هي الأقدار...في اليقظة رأيت الحزن والأسى، بعد أن ذهبت أفراح الحلم ومسراته أدراج الرياح..

***

 





Share To: