الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "لعنة الحرب"
انتصف الليل، نمت رهبة السكوت، طلع القمر ناقصًا من مشرقه وبان بين النجوم كوجه ميت شاحب غارق في الوسائد السوداء بين شموع شاحبة تحيط بنعشه،وظهرت البلدة كعجوز لوت ظهرها الأعوام وأناخت هيكلها الأحزان، وهجر أجفانها الرقاد، فباتت تساهر الدجى، وتترقب الفجر كسلطان مخلوع جالس على رماد عرشه بين خرائب قصره،وقد وقف بين يديها الأمل واليأس شبحين هائلين،هذا باسط جناحيه فوق رأسها وذاك قابض بأظافره على عنقها، هذا يبكي مرتاعًا، وذاك يضحك ساخرًا،وشبح الموت منتصبًا بين الأرض والسماء، متشحًا بالسواد، ممنطقًا بألسنة النيران وأجنحته تخيّم على الجميع،ويده الهائلة تجرف إلى الهاوية الأرواح،أما عيناه الملتهبتان فمحدقتان بالشفق البعيد،الجثث متناثرة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل لاهيًا ولا يجثو مصليًا وروابي من الجماجم هنا وهناك،وليس من ضاحك في المكان سوى الريح.
ممدد على الأرض تحت شجرةٍ قصيرة منفردة أمام باب الدار المهدمة
وقد بدا كغـــصن قصــفته العاصفة وألقت به إلى الحضيض،السكون
سائدًا عميقًا لا يسمع فيه السامع نأمةً ولا حركة كأنه سكون الأرماس اللهم إلا بومًا صغيرًا ينعق من حينٍ إلى آخر نعيقًا شجياً مؤثرا، كأنما هو يوقع لحنًا من الألحان المحزنة على نغمٍ واحد وميزانٍ مطردٍ، سمع ذلك النعيق خافتًا، خيّل إليه أنه آتيًا من وراء الجدران، تحرك مضطربًا كنائم تراوده الأحلام المخيفة ثم استوى جالسًا مستندًا على جزع الشجرة،نظر بعينين شاخصتين جامدتين،كأنه يرى شبحًا في عالم الرؤيا ولا يصدق حقيقة وجوده في ذلك المكان.
بدأ يسمع أصوات أنين ضعيفة هناك وهناك وراء الجُدر المهدمة، فلم يجبها بغير التنهيدات العميقة، وأشعة الأسى تنسكب من ملامحه المضطربة، بقي جالسًا تحت الشجرة والحيرة تتلاعب به مثلما تتلاعب العواصف بأوراق الأشجار، يتفرّس في المكان من حوله مصغيًا للأنفاس المتقطعة، صامتًا مفكرًا، شاعرًا متألمًا معها ولها،حتى أحس أن الزمن قد وقف عن مسيره والوجود قد انحجب واضمحل،ولم يعد يرى سوى الدمار والخراب الذي يحيط به، ولا يشعر بغير نسمة باردة مرتعشة تلامس وجهه، ولم يفق من هذه الغيبوبة حتى سمع صوت جلبة تقترب منه، التفت فرأى ثلاثة رجال ملثمين، يمشون في ملابس سوداء، ويحملون بنادق آلية،حاول أن يقف على رجليه،لكن أحدهم قد وصل وسدد ضربة قوية بأخمص بندقيته إلى وجهه، وأسقطه أرضًا، ثم ركله ركلًا شديدًا في جميع أجزاء جسده عدة مرات، ثم أخذه الآخران يجرانه من ذراعيه حتى أضجعاه على جدار مهدم، لم يقل أي منهم شيئًا، وهو يصرخ ولكن لا يسمع صراخه، قيدا معصمه، عصبا عينيه، ثم صوب ثالثهم البندقية نحو رأسه،تداخلت قهقهتهم مع أنين الأنفاس المتقطعة وحشرجتها،صرخ ثانية لكنه لم يسمع صراخه،أحس بألم حاد في مقدمة رأسه، سال الدم الحار على صدره وظهره،اخترقت الرصاص رأسه، مال عن الجدار وسقط على الأرض،سمع وقع خطاهم تبتعد،رأى جسده إلى يمين الصخرة غرقًا في بركة من الدم،سمع صوت جلبتهم؛قد ابتعدت واختفت في الأفق.
فتح عينيه في فزع،استوى جالسًا في فراشه، وهو يلهث بشدة، ظلّ يحدّق أمامه في الفراغ، وهو يضع كفه في صدره، محاولًا السيطرة على أنفاسه المضطربة المتلاحقة،إنه كابوس مريع،لم يكتفي الموت منه في اليقظة ويصر على أن يلاحقه حتى في منامه، ظن أنه نجح في الابتعاد عنه في السنة التي أعقبت لجوءه خارج حدود الوطن الملتهب، لكنه اكتشف أنه فقط ابتعد عن التعامل معه مباشرة، إلا أن أصابع الأخير فزاحفة في كل مكان من حوله، ولم يتمكن من طرد
فكرة أنه يعيشه.
تمتم بكلمات غير مفهومة وقد ابتلعت الغصات أواخرها ثم بحث عن الوسادة التي سقطت على الأرض بجانب السرير، حملها وستر وجهه تحتها كأن الذكرى قد تجسدت ووقفت أمامه، فلم يشأ أن يراها، وهو يحاول أن يسترجع حصته من الليل.
***
Post A Comment: