فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "المواطنة والتعايش السلمى فى وثيقة المدينة"


فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف يكتب "المواطنة والتعايش السلمى فى وثيقة المدينة"

 


يحتفل المسلمون فى مشارق الأرض ومغاربها اليوم ببداية عام هجرى جديد وهو العام 1444 من هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم وللهجرة معانى كثيرة ودروس وعبر إذا تدبرها الإنسان كانت له نوراً ينير طريقه حيث آخى النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار وكان هذا التآخى بين الأصحاب حددت ثلاثة عشر معنى ودرس من الهجرة النبوية وهى منها :


#حب_الوطن


ضرب لنا النبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضى الله عنهم أروع الأمثلة فى حب الوطن والأدلة كانت واضحة على حب النبى صلى الله عليه وسلم الشديد لبلده ووطنه مكة ، كما تدل على شدة حزنه لمفارقته له إلا أنه اضطر لذلك .


فعن ابن عباس رضى الله عنهما قال : 


لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة قال : 


أما والله لأخرج منك وإنى لأعلم أنك أحب بلاد الله إلى وأكرمها على الله ولولا أن أهلك أخرجونى ما خرجت .


مسند أبى يعلى


ثم لما انتقل النبى صلى الله عليه وسلم إلى المدينة دعا ربه عز وجل أن يجعل حبها كحب مكة فقال صلى الله عليه وسلم : 


اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة أو أشد .

اللهم بارك لنا فى صاعنا وفى مدنا ، وصححها لنا .


متفق عليه


أبرزت لنا الهجرة المباركة العديد من المواقف التى تعبر عن أروع الأمثلة فى حب الوطن والشجاعة والتضحية .


وأبرزت لنا المواطنة والتعايش السلمى ومن أبرز القيم التى أكدتها الهجرة المباركة هى المواطنة والتعايش السلمي .


حيث قدم النبى صلى الله عليه وسلم المدينة وبها العديد من الطوائف ، فوضع النبى صلى الله عليه وسلم وثيقة المدينة لترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمى .


حيث ضرب لنا صحابة النبى صلى الله عليه وسلم أروع الأمثلة فى الإيثار وحب المواطنة والتعايش السلمى فيما بينهم وذلك لما اخى النبى صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار .

قالت الأنصار للنبى صلى الله عليه وسلم :


اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل .

قال : لا .

فقالوا : تكفونا المئونة ونشرككم فى الثمرة . قالوا : سمعنا وأطعنا .


وهذا من أروع الأمثال التى ضربها لنا النبى صلى الله عليه وسلم فى وثيقة المدينة هذه الوثيقة التى جاءت لترسيخ مبدأ المواطنة والتعايش السلمى .


تمثل مواقف "النبى صلى الله عليه وسلم فى الهجرة بجميع مراحلها الدرس العملى للقدوة ؛ من حيث الصبر والتضحية والعمل بدون يأس ثم التخطيط الجيد والتنفيذ وانتهاء بالاستقرار والبناء والتعايش السلمى .


والمتأمل في هذه الوثيقة ومقاصدها العميقة سيجد أنها احتوت كل المبادئ التي ترسخ التسامح والتعايش والسلم داخل المجتمع الواحد بين كل أفراد المجتمع باختلاف أعراقهم ودياناتهم وتوجهاتهم على أساس المواطنة .


وساهمت هذه الوثيقة في توثيق الصلات والعلاقات الأخوية وتعزيز الروابط المجتمعية بين المهاجرين والأنصار وقلّصت التفاوت الاجتماعي والثقافي والنفسي والمعيشي الذي كان بينهم ، و كان لها الفضل العميم في تذويب العصبيّات القبلية والنزاعات الجاهليّة وتخفيف حالة العداء والحرب بين الطوائف التي كانت تسكن المدينة ، والتي كانت تتحكم في مصير الأفراد والجماعات وتجرهم إلى الحروب ، وإراقة الدماء، واستباحة الأعراض والأموال كما كان الحال بين الأوس والخزرج .


ويهدف دستور المدينة إلى تحسين العلاقات بين مختلف الطوائف والجماعات في المدينة وعلى رأسها المهاجرين والأنصار والفصائل اليهودية وغيرهم ، حتى يتمكن بمقتضاه المسلمون واليهود وجميع الفصائل من التصدي لأي عدوان خارجي على المدينة .


وبإبرام هذا الدستور وإقرار جميع الفصائل بما فيه صارت المدينة المنورة دولة وفاقية رئيسها الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصارت المرجعية العليا للشريعة الإسلامية ، وصارت جميع الحقوق الإنسانية مكفولة ، كحق حرية الاعتقاد وممارسة الشعائر والمساواة والعدل .


هذه الوثيقة التى تسمَّى وثيقة المدينة ؛ جاءت لتنظِّم حياة سكان المدينة المنوَّرة من المهاجرين والأنصار ولتنظيم علاقتهم مع اليهود ، وتتضمَّن بيان جميع الالتزامات الواقعة على سكان المدينة ، وبيان الحقوق والواجبات المترتِّبة عليهم ، وكان يُطلق عليها قديماً الكتاب أو الوثيقة ، أمَّا حاليَّاً فيُطلق عليها الدستور أو الوثيقة ، وتحمل هذه الوثيقة أو وثيقة المدينة أهميَّةً تاريخيَّةً ودستوريَّةً .


فالرسول صلى الله عليه وسلم فور وصوله للمدينة على وضع وثيقة تنظم العلاقات في المدينة ، وإن وضع مثل هذه الوثيقة  مباشرة مع تأسيس الدولة تمثل الدستور في المصطلح الحديث ، لذا تعتبر دولة النبي محمد صلى الله عليه وسلم أول دولة دستورية تنشأ على دستور منذ ولادتها خلافا لما كانت عليه الأمم والدول السابقة ؛ فقد كانت تقوم الدول أولا ثم تكون الأحكام فيها عرفية تخضع لسلطة الحاكم التقديرية دون قوانين أو ضوابط تضبطها ، ثم يبدأ حكام هذه الدول بتنظيم الأحكام بما يناسبها شيئاّ فشيئاّ .

أما الدولة الإسلامية فكان بناؤها بكافة مقوماتها منذ النواة الأولى لتأسيسها ، فجاءت الوثيقة التي مثلت دستور الدولة ، ولأن قائد هذه الدولة نبي مرسل ويمثل الدين فإن ما يتصوره الذهن أن هذه الدولة ستكون دولة دينية لا تقبل الآخر ، ولكن على العكس من ذلك وجدنا الوثيقة تمثل في حقيقتها الدولة المدنية وهي التي تحكم بالقانون وتحترم مبدأ سيادة القانون وتراعي جميع الجوانب الحضارية والإنسانية وجميع مكونات المجتمع على مختلف أطيافه وتنوعه .

فكانت هذه الوثيقة أول دستور لدولة مدنية في العالم ، فهي دولة قائمة على مبدأ المواطنة والتشاركية والتنوع والتعدد دون النظر للون والعرق والجنس ، فكفلت حقوق الجميع، محققة العدل والمساواة ، وضمنت حرية العقيدة منذ بداية نشأتها ، حيث انطوى تحت لوائها العربي والعجمي ، ففيها القرشي والخزرجي والأوسي والفارسي والحبشي والرومي ، وحفظت لليهود الموجودين على أرضها حقوقهم الدينية والمدنية ولم تقصي أحداً منهم .

ومما ميز هذه الوثيقة أيضا أنها وضعت للتطبيق العملي فليس فيها فرضيات أو نظريات ، وقد حددت ملامح الدولة ومكوناتها بحيث برزت المدينة كدولة سياسية ذات سيادة وقانون بقيادة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم فأصبحت دولة لها أرض وقيادة وشعب ونظام يحكمها ، تضاهي به نظام الدول العظمى في ذلك الوقت وتباهي به العالم أجمع ، وتتميز به عن كل الدول القائمة حينئذ .


وحوى هذا الكتاب أو الوثيقة والذي يمكن أن نطلق عليه اسم الدستور في العرف الحاضر ما يقارب سبعا وأربعين بندا أو مادة ، جاءت لتنظيم الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين المسلمين بعضهم بعضاً وبين غير المسلمين ، ونظمت العلاقة بين أهل المدينة وغيرهم ممن يحاربهم أو يناصرهم ، فعززت مفهوم سيادة القانون وحقوق المواطنة والمسؤولية الجماعية ، كما عززت مفهوم التكافل الاجتماعي بين أفراد المجتمع الواحد .


حيث جاءت المواد العشرون الأولى لتنظيم علاقة المسلمين ببعضهم البعض ، ثم جاءت بعد ذلك المواد التي تنظم أمور غير المسلمين وتحديد علاقتهم مع بعضهم ومع المسلمين .


ولأن الوثيقة جاءت لبناء دولة مدنية حضارية فكان لا بد من القضاء على النزعات السياسية والقبلية والعشائرية ومراكز القوى في ذلك المجتمع حيث عملت على إقصاء الزعامات المتعددة في المدينة ، ومنعتها من التدخل في صلاحيات الدولة الأساسية ، وتعطيل القانون ومنعت كل ما يتعارض مع سيادة القانون وعملت على إخضاع الجميع لمرجعية الدولة التي أنيط بها تحقيق العدل وتنظيم القضاء فكان الانتقال من الولاء للقبيلة أو الجماعة إلى الولاء للدولة أولى أولويات الدولة .


ومع ذلك إلا أنها غذت الجانب الإيجابي لدى هذه القبائل والعشائر ، فجعلت القبيلة ومراكز القوى معول بناء لا معول هدم ، فعززت جوانب التكافل الاجتماعي لدى أبناء القبيلة الواحدة مما يساهم في الحفاظ على المجتمع قويا متماسكا ، فكانت القبيلة مسؤولة اجتماعيا خاضعة للنظام السياسي العام ، فلا قيادات فوق قيادة الدولة ولا سيادة إلا سيادة القانون .


وكذلك ذكرت قبائل المدينة جميعها وما ذلك إلا لبيان ما لدور القبيلة من أهمية في المحافظة على سيادة القانون وحفظ هيبة الدولة والسعي في تقدمها وازدهارها من خلال التكافل بين أفراد القبيلة الواحدة ومن ثم التكافل بين أفراد المجتمع ككل وبذلك حافظت الوثيقة على دور القبيلة الاجتماعي والأخلاقي بين أفرادها على أن تكون محكومة بسيادة الدولة والقانون وجعلت الانتماء للدولة والوطن فوق الانتماء للقبيلة والعشيرة .


فالوثقية ركزت على مفهوم المواطنة وإعطاء كل ذي حق حقه والمشاركة في بناء الوطن والدفاع عنه وحمايته من الأخطار الخارجية .


فجعلت المواطنة والانتماء للوطن مقدم على أي انتماء قبلي أو سياسي آخر . 


وذلك يدل على أن بناء الأوطان والمحافظة عليها سبب لحفظ الأديان أيضاً فلما حفظت الوثيقة لأهل المدينة دمائهم وأموالهم وأعراضهم وحرمت التعدي عليها بغض النظر عن دينهم وتوجهاتهم ، كان لزاما على الجميع بغض النظر عن معتقده وتوجهه أن يدافع عن هذا الكيان من أي اعتداء خارجي ، لأنه يشكل أحد أفراد هذا المجتمع ومكوناته ، فالدفاع عن المدينة مسؤولية مشتركة ، فكل مواطن يعيش على أرض الدولة مسؤول عن أمنها وحمايتها بغض النظر عن دينه أو عرقه .


أيضًا لم تعمل الوثيقة على إقصاء الآخر بل جعلت الجميع يتشارك معها في نهضة الدولة مهما كان معتقده وتوجهه ، فجعلت اختلاف الأفراد والجماعات اختلاف تنوع وإثراء لا اختلاف تنازع وإقصاء .

وما ذلك التناصح والتشاور ، إلا تبادل للخبرات والأفكار الإبداعية والخلاقة والمعارف التي تنهض بالمجتمع ، وتسعى لتقدمه وازدهاره وتلبي رغباته وتحقق آماله وتجعله دائما في المقدمة .

فكان النصح والتناصح والمشورة بين أفراد الدولة وبين قيادتها من أهم الركائز التي عملت على بناء دولة قوية ومن أهم سبل إدارة الدولة المدنية .

وحددت الوثيقة المسؤولية الجزائية في حال تعدي أحد أفراد الدولة على الآخر فلا جزاء على غير المعتدي ، ولا يتحمل أهله نتيجة تعدي أحد أفراد قبيلتهم على آخر ، بل يتحمل الفرد نتيجة تعديه ، ويعاقب بالعقاب المناسب له ، فلا حروب أهلية بين القبائل نتيجة هذا التعدي ولا تشريد للعائلات ولا للعشائر ولا عودة للجاهلية والعصبيات القبلية التي تثير الفتن وتزعزع الأمن والاستقرار .


أيضاً في هذه الوثيقة الاحتكام للقوانين وأن الدولة منوطة بتطبيقها ويعد هذا من أهم عوامل استقرار الدولة ويمنع من الظلم والتعدي .


فلا أحكام عرفية ولا ثارات ولا تخريب للممتلكات ، فكل خلاف يؤدي أو يخاف منه الفساد في البلاد والعباد فإن مرده الاحتكام للنظام العام للدولة ، لما في ذلك من حفظ للأمن والدماء والأموال والأعراض .


وبذلك تعد الوثيقة التي وضعها النبي محمد صلى الله عليه وسلم من أعظم ما كتب في التاريخ لبناء الدول وتأسيسها ، ولو أن المسلمين اليوم عادوا وطبقوا ما في هذه الوثيقة لكانت لهم دولة قوية تستمد قوتها من قوة من وضع حجر الأساس لها وهو رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم ، من شهد له الله تعالى وشهدت له البشرية كلها بحسن قيادته وحسن إدارته .


هذه بعض معالم الحضارة الإسلامية في دستور المدينة أو وثيقة المدينة تبين لنا كيف سبق النظامُ الإسلامي جميع الأنظمة في إعلاء قيم التسامح والتكافل والحرية ونصرة المظلوم وغيرها من القيم الحضارية التي يتغنى بها العالم في الوقت الراهن دون تفعيل جاد أو تطبيق فاعل .




Share To: