الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "قراءة ما بين سطور" 


الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "قراءة ما بين سطور"


ترامت مزارع القطن طويل التيلة في الصقيعة بليل في خضرة بهية تسر الناظرين، وقف مستر كلستم في تلة صغيرة وسط هذه الحقول،مرتديًا بزته الزرقاء الأنيقة وعلى رأسه برنيطة بلون أحمر قاني، أخرج غليونه، نفث عنه الغبار ثم حشاه وأشعله بالزناد، ثم شهق منه نفسًا عميقًا وأطلق دخانه في الفضاء الذي شكّل غيمة كثيفة،أخذ يجول ببصره الأخضر في هذا الفضاء المخضر الذي سيدر على المملكة العظمى الخير الكثير، نده عليه أحد المزارعين (حاج بشير) رجل في بداية عقده الخامس، متوسط الطويل،أشيب الرأس،واسع العينين،أكحلهما،ذو حكمة وبديهة، خفيف الظل حاضر الطرفة، متميز بقفطانه وعمامته  اللذان ينمان عن هندام ظاهر للأعيان.

سلام سيد كلستم..

التفت إليه مستر كلستم وقال:

عليكم السلام حاج بشير، ألك حاجة؟

حاج بشير:

نعم..لقد سُرقنّا!

مستر كلستم:

من السارق..يا حاج بشير؟

حاج بشير:

الأفندي ريس الأنفار.

مستر كلستم:

ماذا؟ من الأفندي هذا؟!

حاج بشير:

يا سيد كلستم أعتقد أنك تعرف موظفيك!

ابتسم مستر كلستم:

 حسنًا ..حاج بشير تعال معي..

ذهب حاج بشير مع مستر كلستم إلى سكنه المخصص له كمنزلة عند زيارته التفتيشية للمشروع،جلس مستر كلستم إلى مكتبه،وأشار على حاج بشير بالجلوس على الأريكة التي على يمينه،نده بصوت عال على أنيس أفندي الذي كان في السكن المقابل (مقر المهندس الزراعي ومساعديه)..

أنيس أفندي رجل متوسط العمر،قصيرالقامة،أصلح،أصفراللون،سريع 

الخطى، ذو لفافة، تدور عينه في حدقات تنم عن خبث ولؤم ومكر 

واحتيال، دخل أنيس أفندي مطأطأ الرأس، مرتبك الأطراف،ألقى التحية بصوت خافت، اختلس نظرة مريبة تجاه حاج بشير.

مستر كلستم:

أنيس أفندي.. أين دفاتر وزن القطن؟

أنيس أفندي:

موجودة ..مستر..

مستر كلستم:

حسنًا..أحضرها لي الآن..

ذهب أنيس أفندي وأحضر الدفاتر ، ثم قدّمها لمستر كلستم بيدين مرتعشتين،عندها أخرج حاج بشير كراسة أنيس أفندي من جيبه وقدّمها هي الأخرى لمستر كلستم، علت الدهشة والخوف والخجل وجه أنيس أفندي الذي بدأ يتصبب عرقًا.

نظر مستر كلستم في الدفاتر والكراسة بعمق ،وجد تلاعب في الأوزان في الدفاتر الرئيسة؛الوزن كامل والسعر أمامه كاملًا، أما في كراسة أنيس أفندي الوزن منقوص وسعره كذلك، مما يعني أن هنالك فارق في السعر يذهب إلي أنيس أفندي الذي هو المسئول المباشر الذي يسلم الأنفار ثمن قطنهم.

صاح مستر كلستم:

أنيس أفندي، هذا غش، هذه جريمة!

أطرق أنيس أفندي وقال بصوت مرتعش:

أنا لست وحدي مستر..الباشمهندس جميل أفندي يعلم ذلك..

مستر كلستم:

يا للهول..جميل أفندي أيضا..هيّا أذهب وأتني به حالًا..

جميل أفندي، رجل طويل القامة، نحيل، أبيض اللون، له عينان زرقاوان تنمان عن ثقة مشوبة، دخل جميل أفندي ووقف أمام مستر كلستم،ثم حي ونظر للجلسة بشكل مريب..

جميل أفندي..

جميل أفندي:

نعم مستر!

مستر كلستم:

جميل أفندي انظر في هذه الدفاتر وهذه الكراسة جيدًا..

نظر جميل أفندي بارتجاف كشف الحقيقة، ثم أطرق دون أن ينطق بكلمة واحدة..

مستر كلستم:

جميل أفندي، أعتقد أنك تعرف جيدًا أن هذه جريمة يعاقب عليها القانون.. عليه غدًا صباحًا الكل يذهب معي إلى المدينة..

مع خيوط الفجر الأولى، انطلقت السيارة الــكومر تجاه المدينة تحمل 

على متنها حاج بشير ورفاقه المزارعين وأنيس أفندي وجميل أفندي وهي تنهم الأرض من خلف سيارة مستر كلستم (الجيب الصغيرة)..

وصل الركب عند الحادية عشرة صباحًا واتجهوا إلى المحكمة مباشرةً، دخل مستر كلستم على القاضي مستر جون بن، فحياه وجلس حتى فرغ الأخير مما في يده، ثم نده القاضي على حاج بشير الذي وقف في منصة الإدعاء،ووقف أنيس أفندي وجميل أفندي قفص الاتهام..

القاضي:

حاج بشير..هيّا قل ما عندك.

سيدي القاضي، لقــد أتيـــت من بلدتي بعد قضاء عــطلة العيد قبل  إخوتي المزارعين، ومن ثم توجهت إلى سكن الأفندية للسلام عليهم،فلم أجد أحدًا بالسكن، فقلت في نفسي أجلس قليلًا في انتظارهم علّهم يأتون، فبينما أنا جالس على السرير وأظنه سرير أنيس أفندي، أحسست بشيء تحت الفرش فلما رفعت الفرش وجدت كراسة، فحملني الفضول على تصفحها فإذا بي أجد الملعوب (السرقة)..

القاضي:

أنيس أفندي، ما قولك في كلام حاج بشير؟

أطرق أنيس أفندي بلا جواب..

القاضي هز رأسه وقال:

جميل أفندي، هل لديك ما تقوله؟

أطرق جميل أفندي كصاحبه بلا جواب..

همس القاضي في أذني مستشاريه، ثم صمت قليلًا ثم قال:

أنيس أفندي لقد حكمت المحكمة بأنك مرفوت من وظيفتك، مع إلزامك بدفع فرق سعر القطن كاملًا لمزارعين، أما جميل أفندي فأنت ملزم بدفع غرامة قدرها (ثلاثة جنيهات) مع خفض درجتك الوظيفية إلى الدرجة الأدنى.

***

 




Share To: