قراءة في مجموعة "بيدها تسقيني أكواب البابونج" للشاعر كاظم اللايذ | بقلم الناقد علاء لازم العيـسى


قراءة في مجموعة "بيدها تسقيني أكواب البابونج" للشاعر كاظم اللايذ | بقلم الناقد علاء لازم العيـسى



   منذ زمن بعيد قدّم أبو عثمان الجاحظ ، في كتابه الحيوان ، تعريفًا للشعر قال فيه إنّما الشّعر صناعة ، وضرب من النسج ، وجنس من التصوير . وبعد الجاحظ بقرون استخلصت الشاعرة والناقدة نازك الملائكة للقصيدة الجديدة تعريفًا وصفتها فيه بأنّها تجمّع معانٍ جميلة موحية فيها الإحساس بالصّور . ورأى الناقد عبدالعزيز المقالح ـــ بعدهما ـــ إنّ القصيدة الأجدّ تتطلّب من الشروط ما لا تتطلّبه أيّة قصيدة أخرى ، وإنّ الامتثال لهذه الشّروط يتطلّب إمكانيّات لغويّة وثقافيّة لا تتوافر إلّا للقليل ممّن امتلكوا الأدوات والتقنيّات الشعريّة الأحدث . أقول : ومن وجهة نظري كان الأستاذ الشاعر كاظم اللايذ ـــ الذي بلغت إصداراته حتى سنة 2021 ثماني مجاميع شعريّة ـــ من هذا القليل الّذين عناهم الدكتور المقالح . وفيما يأتي قراءة في مجموعته الشعريّة (( بيدها تسقيني أكواب البابونج )) ، التي صدرت طبعتها الأولى عن دار أمل الجديدة ، دمشق 2021 ، وقد ضمّت خمسة وعشرين قصيدة شعريّة ، متباينةً في أطوالها ، وإن كانت تميل إلى القصر .

   لغته الشّعريّة 

   إنّ اللغة التي استخدمها شاعرنا اللايذ في أغلب ما كتب في هذه المجموعة يمكن أن نطلق عليها أنّها لغة ( تُقال وتقول ) ، حاول الشّاعر من خلالها أن يوصل رسائله ومفاهيمه بعيدًا عن الضّبابيّة والتعقيد والانغلاق قدر الإمكان ، وبالرغم من تركيبة بعض قصائده السّرديّة والاستطراديّة ، لكنه لم يقع في فخّ المباشرة الفجّة التي تحرم قارئ قصائده والمستمع لها من لذة الاندهاش ؛ نعم ربّما استخدم بعض الغموض الشّفاف لكسر حاجز الرتابة ، ولتحفيز ذهن القارئ على متابعة الدلالة ، وهذا ما وجدته في قصيدته ( لا أراه ) التي افتتح بها مجموعته الشعريّة المذكورة عند استخدامه لجانب غير مرئي ومجهول في حياة الإنسان (( يعيشُ معي / كائنٌ غامضٌ / لا أراه / أُحسُّ بخفقةِ أقدامهِ حين يمشي / وألمحُ أشياءَه ، حين يتركها في الأرائك / يروح ويأتي / ولكنني لا أراه / وما كنتُ أدري إذا كانت امرأةً / أو مَلاكًا تخلّف عن رهطهِ / أو سفيرًا من الجنّ )) . فهل هو اعتراف بعجز عقولنا القاصرة عن الوصول إلى الحقيقة ، أم هو رصد لمحاولة غير منظورة لتغييب المعرفة واللاعقلانيّة وحجب الرؤية التي ما بعدها إلّا الضلالة والعمى ، وربّما يوحي دوران القصيدة بين الواقع والخيال ، والاندماج بين عالم الشاعر المرئي وعالم الكائن المجهول وغير المرئي ، بالرغبة بالتحرّر من المبادئ المألوفة والقيود القاهرة للعالم الواقعي الظاهري ، وما يحمله من تشوّهات . 

   القلق الوجودي 

    ومن الظواهر الأسلوبيّة اللافتة في شعريّة الأستاذ كاظم اللايذ في هذه المجموعة ، هي هيمنة القلق بمعناه الوجودي الذي ينتاب كلّ الواعين الذين يتحمّلون مسؤوليّات وجودهم الإنسانيّ والمعرفيّ ، والذي يتمظهر بغربة المثقّف الواعي عن واقعه الفاسد ويأسه من المثال والتغيير ، وليس القلق بمعناه اللغويّ الذي يدلّ على الانزعاج وعدم الاستقرار النفسي والمكاني ، أو القلق العصابي الذي يدلّ على اضطراب الشخص النفسي والانفعالي . وهذا ما وضح في قصيدته ( دنانيري الملكيّة ) في قوله (( تذكّرتُ الآن / أنّ الأدويةَ / التي أشتريها من الصيدليّات / وأدفع لقاءَها ماءَ قلبي ، لا تنفع / توجّهتُ إلى سوق العطّارين / حيث البابونج وورد لسان الثور / والقرنفل ودهن العود وثوم الجبل / وحيث التوابل القادمة من الهند / تحقنُ عضلة الهواء بالمورفين / سألتُ عن عبدالجليل العطّار / قال لي رجلٌ معفّر بالكاري : يبدو أنّ ساعة يدك أيّها العمّ / متوقّفةٌ منذ العهد العصملي / لأنّك تسألُ عن رجل / مات قبل خمسين عامًا )). فمجيء الفعل ( أشتريها ) بصيغة المضارع ، وليست بصيغة الماضي ، تدلّ على فساد الحاضر واحتمال بقاء الحال على ما هو عليه بلا تغيير . 


      استدعاء الرموز 

   وبقيام شاعرنا اللايذ باستدعاء الرّموز الدينيّة والشعبيّة والتأريخيّة والأسطوريّة العربيّة والمحليّة والعالميّة ، مثل : ( صالح عبدالقدّوس ، وواصل بن عطاء ، وعبدالجليل العطّار ، والسّدارة الفيصليّة ، وهند آكلة الأكباد ، وحميد الخيّاط ، وناصر خسرو ، وراسبوتين ، وخرائب إرم ذات العماد ، والحشّاشون وحسن الصّباح ) ، فقد دلّل على ثقافته الموسوعيّة والمتنوّعة ، كما استطاع أن يتحرّك بالقارئ بحريّةٍ بين الماضي والحاضر والمستقبل ، وأن يبعث الحياة ببعض الرموز المهملة أو الهامشيّة وهذا ممّا يحسب له مستقبلًا ، وأن يضع القارئ أمام حشد من المواقف والصّور والتساؤلات تتقابل في علاقات جدليّة فتعمّق مناخ ودلالات القصيدة . ففي قصيدة ( صالح بن عبدالقدّوس في محنته ) استفزّ الشاعر ذهن القارئ حينما اتّخذ من اسم ابن عبدالقدّوس الحكيم المتكلّم والمتصوّف الزاهد ، الذي كان يعظ الناس في البصرة ثمّ أعدمه المهدي العبّاسي سنة 167هـ بتهمة الزّندقة ، رمزًا من رموزه ، ليشكّل ادانة فاضحة لاستبداد الحاكم وديكتاتوريّته ، والقمع ومصادرة الرأي الآخر والقتل على الشبهة ، وإدانة فاضحة للساكتين من المحكومين أيضًا (( فلماذا لا يأتيني أحدٌ / في ليلي الأكحلِ إلّا أنت ؟ / ألأنّكَ كنتَ وحيدًا / تتلفّتُ / حينَ حُملت إلى بغدادَ بأمرِ السلطان ؟ / ولأنّك كنتَ غريبًا / مرعوبًا / حين ذُبحتَ وعُلّقتَ على الجسر ؟ / لم ينفعْك مقالُك للسلطانِ / بأنّ الحدّ على المسلم يُدرأُ بالشبهاتِ / فلا تقتلني بالشبهة يا مولاي )) ص19.

 الانسجام مع الطبيعة         

    وكما أنسنَ شعراء العربيّة القدماء الفضاء والأشياء المحيطة بهم ، فجعلوها تتكلّم وتغضب وتختال ضاحكة كما جاء على لسان شاعرنا البحتريّ ، أنسنَ الأستاذ اللايذ الأشياء والموجودات المجسمة والمجرّدة من الأبعاد ، المحيطة بنا كوسيلة من وسائل الحث للتذكير بقيمة التفكير والنظر والانسجام والإلفة مع الطبيعة وعالم الأشياء . فجعل الطيور المهاجرة ( تتفرّج علينا من عَنان السماء ) ص110 ، والسلحفاة ( تراقبُ النهر / وتحسبُ مواقيتَ المدّ والجزر ) ص111 ، وعندما تساوم الفرنسيّة مدام ديولافوا رجال الكمارك العثمانيين وتحاول رشوتهم لتتجنّب المبيت بالكرنتينة فالسلحفاة (( من تحت ترسها على الطين / ترصد هذه المعصيّة / وتحفظ ما رواه البخاري / في مذمّة الراشي والمرتشي )) ص112 . وبفلسفة رائعة جدًّا استطاع شاعرنا أن يعقد مقارنة بين الضعف الذي جُبل عليه الإنسان ، وبين الحكمة الغريزيّة للحيوان التي يمكن أن يتعلّم الإنسان منها أشياء كثيرة ، فيقول في واحدة من قصائده (( خلقني ربّي من طين / ولكنه منحني مزاجَ الآلهة / إذا أرادوا شيئًا / أن يقولوا له كن فيكون / لم يمنحني صبرَ الجملِ / ولا حكمةَ النملةِ / ولا دأبَ دودة القزّ / ولا هدوءَ مالك الحزين )) ص68 . وقد تضمّنت صيغة الجمع ( إذا أرادوا شيئًا ) إشارات ودلالات لا تخفى على اللبيب ، تشير إلى الآلهة بمعناها العام وليس الله بالمعنى الخاص . 

   المدينة البعيدة 

   وبعد دعوته للتصالح مع الطبيعة وموجوداتها ، يبقى شاعرنا كاظم اللايذ يحلم بمدينة فاضلة يتصالح فيها الناس مع أنفسهم ومع الآخر ، تعمل بقانون الحبّ والإنسانيّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة وتكافؤ الفرص    (( الناس هنالك بلا أسماءٍ ولا ألقاب / ينامون في الحدائق / ويأكلون سويّةً على فراش واحد / الذئاب فيها تنام مع الغزلان / والصّقور تلعبُ مع الحمائم )) ص101 . فهل يا ترى يتحقّق هذا الحلم ؟ هذا ما أتمنّاه ، ولكن ما كلّ ما يتمنّى المرء يدركه . 

   اللايذ سيرة ومسيرة   

    ولد الأستاذ كاظم اللايذ في محافظة البصرة / العراق في سنة 1946 ، ابتدأ النشر في ستّينيّات القرن الماضي ، عضو اتحاد الأدباء في البصرة ، أصدر ثمان مجموعات شعريّة . أشاد بشعره النقّاد ، وتوقّفوا عنده كثيرًا ،  فكتب عنه الأستاذ جمان حلّاوي ووصفه بشاعر المدن والشاعر الفحل ، فقال : (( إنّ الشاعر كاظم اللايذ الإنسان هو شاعر المدن وساحر الكلمات ، ... بل هو شاعر فحل يسحبك للقراءة والتأمّل وتمنحه مهارته وفلسفته في الحياة وشعريّته النادرة ليأخذ الصدارة بين الأسماء الكبيرة من شعراء العالم )) . وكتب عنه الناقد البارع والكاتب الموسوعي مقداد مسعود واخترع لقصائده لقب ( القصيدة السياحيّة ) متمنيًّا عليه أن يجمع قصائد المدن المتناثرة في مجموعاته الشعريّة في ديوان واحد ، فقال :           (( فالصديق الحميم الأستاذ كاظم اللايذ من الجوّابين في أرض الله الواسعة  وتمنّيت عليه يومًا أن يجمع قصائد المدن وهي قصائد متناثرة في مجموعاته الشعريّة ، وهو في هذه القصائد يشعرن اللقطة السياحيّة ، ويطليها بجرعات من المخيّلة أيضًا )) ، وأمّا الكاتب والناقد توفيق الشيخ حسين فقد وصف شعر اللايذ بقوله : (( وأنّ شعره ينساب في يسر كما ينساب الماء من ينبوعه ، وينبثق في طلاقة كما تنبثق من الشمس أشعّتها ، ومن الزهر أريجه )) ، وأخيرًا فقد عدّ الأستاذ كاظم صبر البياتي شاعرنا اللايذ من السائرين في ركاب مدرسة السيّاب الشعريّة .





Share To: