الأديب المصري / د. طارق رضوان جمعة يكتب مقالًا تحت عنوان "الماء أساس الحب والأخلاق" 


الأديب المصري / د. طارق رضوان جمعة يكتب مقالًا تحت عنوان "الماء أساس الحب والأخلاق"



 “من عظيمِ لطف الله بنا أن جعل بعضنا لبعضٍ سُخريّا؛ تأمّل كيف يسوق الله لك الطيّبين ليُخفّفوا عنك كدر الحزن في أشدّ لحظاتك حُلكة، ويُجري الله على قلمِ أحدهم نصًّا حين أحوج ما تكون للمعنى الذي يحويه، كلّ ذلك التّسخير لك أنت؛ لتقاوم وتطمئن! ليُضمّد مساحات فى قلبك .

أعطى لروحك فرصة أن يجبر الله كسرك ويحتوى ضعفك ويختضن صقيعك ويرمم بقاياك فيصهر حزنك فمواساته ترقق روحك وتجملها. الشيخ الشعراوي قال جملة جميلة جدًا : “يبتليك الله ليختبر صبرك فتصبر فيكرمك ثم تحمد فيزيدك ثم تستغفر فيغفر لك ويعلى شأنك بين الناس ويرضى عليك فيزداد جمال روحك”..

 ما بال العبد يُصلى ويصوم ، يُضحى ولليل يقوم لكنه لا يتعظ وللإصلاح لا يعود؟ وكانت الإجابة موجزة لكنها شافية وكافية فنحن نحمل مفتاحاً نجهل بابه الصحيح: فنسينا أو تناسينا أن الدين وسيلة لرقى الروح والفضيلة. وصرنا نحمل ديناً لا نفقه منه شيئاً إلا القليل، ونتمسك منه بما لا يتعارض مع مصالحنا الدنيوية أو بما يحقق لنا مصالح وقتية وفورية. فمتى كانت معرفة الله صياماً وقياماً وصلاةً بلا روح؟ كيف نعبد الله بعقل شغلته الأفكار والهموم ورغبات وطموحات وبين طمع نقص ثقة بالله ومفاتن تكاثرت علينا ندعى التدين وتتظاهر المسبحة بأيدينا برياء فاجر أننا على طريق النجاة.

فحين تطهر نفسك، تكون قد نجحت فى التواصل مع الله وعرفت كيف تستخدم مفتاحك لفتح باب بينك وبين الله. فهل تستطيع أن تعود للفطرة النقية وتتخلى عن الأفعال الشيطانية؟

فهل تستطيع أن تخلص نفسك من احتلالك؟ نعم أنت مُحتل داخلياً بمفاتن الحياة وعبثها. ستظل روحك فى ظلام الاحتلال طالما أنك ما زلت تعتقد أن بيت الله هو المسج والكنيسة والمعبد فقط. بيت الله تجده الروح النقية فى كل مخلوقات الله من أشجار وأنهار وثمار. فهكذا كانت أفة الجاهلية والجهلاء حين اعتادوا عبادة الأصنام والذهاب إليها حول الكعبة، فاذا ما انصرفوا وتركوها عادوا لممارسة كل ما يُغضب الله وترفضه الروح العفيفة. فالكون كله بيت الله فلا يليق بك أن تعبده فى جانب من بيته وتعصاه فى جانب أخر. ومن لم يجد الله فى قلبه، لن ينفعه التعبد بأى شكل.

فانحناء النفس خير من انحناء الجبين لله. فاذا رأيت الجهل منتصراً فى الحياة، فاعلم أن جهلنا هو ما يفسر الأمور دون أن يرى حكمة الله خلف الأحداث. هذا هو عقل من لم يسمع أو يعي قصة الكون الأبدية كاملة متكاملة. فالصورة لديه غير مكتملة الزوايا.

الله وحدهُ يعلم أنك تجابه جيوش الأيام وأنت فرد. ومن المؤسف ألا تعرف أين ترتمي وكل الأماكن تتطلب منك الوقوف. فلا يعرف مرارة التجاوز لشيءٍ ظننته أبديًا إلا من عانى ذلك. فالمرء يتعافى بقدر رضاه، وبقدر صلته بالله، وبقدر كونه حقيقي، بكونه جميل داخليًا لا ظاهريًا فقط، يتعافى المرء بقدر صراحته وصدقه، ولينه و ودّه، وحنانه على نفسه قبل غيره، وهوان أخطاء الناس على روحه، يتعافى المرء بقدر قُربه من روحه.”

 “إذا تعسّر عليك شيءٌ من مرغوباتك وبذلت لأجله الأسباب، فما على قلبك إلا أن يُحسن الظنّ بالله؛ لأنك قمت بواجبك، وفعلت ما بوسعك ولم يتأخّر العطاء إلا لحكمة علِمها الله وغابت عنك. هذا الشعور إن سكَن قلبَك سكّنه؛ فحملك على أن تطمئنّ، وألا تيأس أو تقلق، وأن تزيدَ قُربًا من الله ويقينا”

 ومن الطبيعي أن يتبادر إلى أذهاننا سؤال وهو لماذا لا تمضى الحياة بسعادة و راحة فحسب بلا ألم ؟

الماء .. الماء هو أصل كل شيء .. إذا صلح ، صلح كل شيء .. وإذا فسد ، فسد كل شيء .. (وجعلنا من الماء كل شيء حىٍّ) ~الأنبياء : 30. فإذا حدث خلل فى السبب ، اختلت النتيجة .. إذا رأيت خللًا فى أى شيء ، فاعلم أنَّ سببه خللًا فى الماء الذى أتى منه هذا الشيء .. هناك صور كثيرة وأشكال عديدة للماء : فالجسم ماء .. الأخلاق ماء .. المشاعر ماء .: (ألم نخلقكم من ماءٍ مهين) ~المرسلات : 20 .. (مهين) يعنى : ذو مهنة .. فكل ماء له مهنة خاصة به يقوم بها ، و يؤديها على أحسن ما يكون .. فإذا اختل الماء ، اختلت مهنته ، وباختلال مهنة الماء يظهر الفساد فى البر والبحر . فالعلاقة الحميمة بين الزوجين هى اجتماع ماء الذكر مع ماء الأنثى وتؤدى إلى سعادة للطرفين . بينما نفس العلاقة لو تمت فى زنا ، فتختل مهنة الماء ويسبب أذى نفسى.

(والله خلق كل دابة من ماء) ~النور : 45 .. الماء هو الخط الذى تتواصل به الموجودات مع بعضها ، فإذا انقطع هذا الخط تلاشى الاتصال بينهم .. الماء هو الأساس الذى يعلو عليه عرش الرحمن ، ولهذا إذا حدث خلل فى الماء عند أمة من الأمم ، فإن الرحمة بينهم يحدث فيها خلل هى الأخرى .. والعكس صحيح : إذا رأيت قومًا لا ينعمون بالرحمة كما ينبغى ، فإنما ذلك بسبب تلوث ماؤهم الذى يشربون منه . فالأخلاق والسلوك والمعاملة إنما هى تجليَّات مختلفة للماء الذى يشربه الإنسان .. وكما تعلم فإنَّ الدين المعاملة .. فدين المرء هو انعكاس لجودة الماء الذى ينهل منه .. ولهذا قال النبىُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : “اظفر بذات الدِّين : تربت يداك.” ، لأن ذات الدين هى صاحبة أجود ماء يمكن أن يتخيره الرجل لنطفته ، كما فى الحديث : “تخيروا لنطفكم.” ..

 فالهواء ماء .. والطعام ماء .. والمال ماء .. ولكن أهم صورة من صور الماء هى : الصوت .. فالكلمات ماء : سواء نسمعها أو نقرأها أو نقولها .. إذا رأيت أمة قد تغيرت كلماتها من حسن إلى قبح ، فاعلم أنَّ أخلاقها قد ساءت ، وأن معيشتها أوشكت أن تصير ضنكًا .. وكذلك : الموسيقى ماء .. فإذا علمت أن قومًا قد تبدلت الألحان التي يسمعونها ، من ألحان عذبة جميلة إلى ضجيج ، فاعلم أنَّ جودة الحياة عندهم قد أوشكت أن تنخفض إلى الصفر .. إذا أردت أن تعرف مدى جودة الحياة فى أمة من الأمم ، فانظر أولًا إلى جودة الألحان التي يسمعونها ..

 ولهذا ، من أراد الزواج ينبغى له أن ينظر إلى أخلاق من يريد الارتباط به ، وأن ينظر إلى نوعية الكلمات التى يقولها ، حتى يتضح له جودة ماءه ، لأن أى شائبة فى الماء ستتجلَّى بعد ذلك فى المعاملة وفى البيت وفى نوعية الحياة ..

من يفسد الماء؟ ولماذا؟

تلويث الماء وإفساده هو تخصص مردة الشياطين .. وقد حفظ الله السماء منهم ، لأنَّ السماء هى مستودع الماء الطهور ، الذى تتنزَّل به الأرزاق : (وفى السماء رزقكم وما توعدون) ~الذاريات : 22 .. ولأنَّ الماء حياة ، وأجمل ما فى الحياة زينتها ، فهم لا شغل لهم إلا إفساد الزينة : (إنا زيَّنا السماء الدنيا بزينة الكواكب . وحفظًا من كل شيطانٍ ماردٍ) ~الصافات : 6 ، 7 .. هذا بالنسبة لزينة السماء ، أما الحياة الدنيا فزينتها المال والبنون : (المال والبنون زينة الحياة الدنيا) ~الكهف : 46 .. فأى فساد فى المال ، أو نقصٍ فيه أو تلف ، وأى فساد فى البنين ، إنما سببه المردة 



لذلك من الجدير بالذكر بخصوص الحب أنه ينبغي على المحب أن لا يعلن عن حبه لمحبوبه أمام الغير ، لأنَّ مشاعر الحب تولِّد حول المرء ومحبوبه هالة نفسية ، تحتويهما فقط ، ولا تتسع لغيرهما .. ولهذا قال الله فى حق أقوامٍ : (فسوف يأتى الله بقومٍ يحبهم ويحبونه)المائدة 54, فلو أعلن المحب عن محبوبه لانفتقت هذه الهالة وضعفت، لذلك جاءت كلمة (بقوم) نكرة غير معروفة لهذا السبب ، حفاظًا على رداء الحب الربانى لهم ، فلا يمسه أحدٌ غيرهم .. ولم يحدد أيضًا زمنًا ، قال (فسوف) ، ليظل زمانهم غير معلوم أيضًا من أجل صيانة محبتهم .. هذا ما ينبغى أن يدركه كل محب ، أن لا يظهر حبه لمحبوبه على الملأ ، وإنما يظهر حبه لمحبوبه فقط .. فى الحديث الشريف : “مَن أحب أخاه فليخبره أنه يحبه.” ، يخبره فقط ..

 وعلى هذا الأساس يمكنك أن تنتقى شريك حياتك. فلو أنك لاحظت ما حولك من الطبيعة لوجدت مثالين ذكرهما الله في القران ونراهم حولنا فى الكون وهما العنكبوت والنملة.

1) النحلة : وقت التزاوج ، تطير الملكة محلِّقة فى الحقل ، وينطلق على إثرها يعاسيب النحل ، قاطعين وراءها مسافات طويلة .. ثم فجأة ، تنطلق الملكة إلى أعلى نحو السماء ، فينطلق اليعاسيب خلفها ، ولا يزالون كذلك ، حتى يبدأ اليعاسيب فى التهافت والسقوط ، واحدًا وراء الآخر ، فلا يصل إليها في علياءها إلا يعسوبًا واحدًا يظفر بها ..إنهما معًا قد ارتفعا على كل من سواهما ، وأصبح ذلك إشارة إلى أنهما قد صارا زوجين .. فالنحلة لا تتزوج إلا من أعلى يعسوب ، لأنها تدرك أنَّ الماء العذب يعلو دائمًا على كل ماءٍ مالح .. فالملكات تبتغى العلو دائمًا لتحافظ على عذوبة ما فى بطونها ، الذى جعله الله شفاء للناس .

2) العنكبوت : إذا اتخذت بيتًا ، فإنما ليكون فخًّا .. إنَّ العنكبوت لا ترى إلا الفرائس ، ولا يرتقى إدراكها أبدًا إلى درجة إدراك النحلة .. العنكبوت تحيا بمبدأ الجوع .. إشباع الجوع الدائم هو ما يحرِّك العنكبوت ، فهى لا ترى الدنيا إلا فى إطار صياد و فريسة .. تنسج شباكًا لتصطاد بها الفرائس من شتى الألوان .. تلتهمهم ، ثم تغادر ما كان بيتًا .. حتى الزوج تلتهمه بعد التزاوج ، ولا تمهله وقتًا يستعيد فيه ما سلبته منه .. حتى صغارها ، تضعهم على ظهرها ، وعندما تجوع تقوم بالتهامهم الواحد تلو الآخر .. العنكبوت لا تتورع عن أكل عنكبوت آخر من جنسها ، سواء وجدته حيًّا أو ميتًا .. العنكبوت إذا تعقبت عنكبوتًا آخر ، لا تتركه إلا بعد أن توقعه فى الشرَك ، ثم تقوم بامتصاص الماء الذى فى داخله ، حتى آخر قطرة ، وبعد ذلك تأكله .. هكذا تفشل العلاقات القائمة على إشباع الجوع . لأنَّ أحد الطرفين ينوى من البداية أن يلتهم الآخر .. على عكس النحلة ، فهى لا تأكل أبدًا أحدًا من جنسها .. وإن ماتت نحلة فى الخلية ، فإنَّ النحل يجتمع ليخرجها منه ، فإن تعذر عليه ذلك ، قام النحل بوضع مادة شمعية على النحلة الميتة ، ويغلفها تمامًا بهذه المادة ، إكرامًا لها فى موتها كما كانت مكرَّمة فى حياتها ..

إنَّ الزواج المبنى على نموذج العنكبوت ، هو النموذج الذى تتفكك به الأسرة ، وتخرب به البيوت ، ويتهاوى به المجتمع ، لأنه لا يبتغى عمارًا واستقرارًا .. إنه نموذج قائم على امتصاص ماء الآخر .. وإذا ذهب الماء ذهبت معه الحياة .

المودة والرحمة لا يتواجدان إلا مع الشبع .. أما الجوع فيلتهمهما .. وإذا زالت المودة ، زالت معها السعادة واللذة.. وإذا زالت الرحمة ، زال معها الخير والنعمة . فأىُّ وهنٍ يمكن أن يصيب البيوت بعد ذلك .. (وإنَّ أوهن البيوت لبيت العنكبوت ، لو كانوا يعلمون) ~العنكبوت : 41 .. أما الزواج القائم على نموذج النحلة ، فهو زواج مكتوبٌ له الاستقرار والنماء والبركة ، يخرج من بطونه شرابٌ مختلفٌ ألوانه .. فيصبح الزوجان هما منبعًا لشراب جديد صافٍ ، يتدفق منهما ، (فيه شفاءٌ للناس) ~النحل : 69 .. فيتعافى المجتمع بعد ضعف ، وتقوى البيوت بعد وهن .. قال الله : (وتلك الأمثال نضربها للناس ، وما يعقلها إلا العالِمون) ~العنكبوت : 43 .





Share To: