مختارات من روائع الفن (40)  بعيدا عن سراب المدينة  للأديب التونسي / البشير عبيد بقلم الناقد المصري / فتحي محفوظ


سراب المدينة  للأديب التونسي / البشير عبيد بقلم الناقد المصري / فتحي محفوظ


قبل مجيء امرأة النور إلى المكان

المتاخم للضباب

كان الرجل الجسور يعبر الجسر

العتيق

يسير وحيداً بعيدا عن بهاء الرخام

الجندي الجريح يسال عن وجاهة

المعركة

هنا التقى المتخاصمان

السيف و الوردة

العاشق و العشيقة الباحثة عن عناق

لن يجيء 

كم من الوقت يكفي لانتظار المدد

حروب هنا في الشرق القديم

و لا أحد يعرف متى يتلى البيان الأخير

امي التي اسمها آمنة تقول لي فجر كل يوم:

كن بعيدا عن سراب المدينة

كن قريباً من بهاء الكلام

حبرك الذهبي هو السند

حين يغيب عن البلد الرجل الجسور

كيف نسيت صوت فيروز و مارسيل 

و لم تذهب سريعا إلى خيام العابرين

لا تخف من صلف الرعاع

صوتك العالي صادم للقابعين في الظلام

صمتك أعلى و اعلى من ضجيجهم 

في المقاهي

قادماً من مدن الثلج و الرماد

تراه العيون لا يهاب لهيب العاصفة

ربما ارتوى من ماء الاساطير

و اخذته خطاه إلى ينابيع الرؤى 

فجأة يباغت حارس المقبرة بالسؤال:

لماذا يخافون من الاتي.....؟

و اجسادهم غارقة في مياه الخوف 

هنا التقى الصوت و الصدى

الرحيل و البقاء

الذهول و الانكسار

رخام القصور و ذاكرة الانين

أطفال التخوم و اللافتات 

صوت خفي يخرج من الاسوار 

و النشيد الذي تنشده الحناجر

لا تردده الافواه الباهتة 

لا صوت يعلو فوق صوت المعركة

هنا بلاد و أحفاد و رايات

هنا امي تطعمني حليب الانحياز

صبيحة كل يوم تقول لي:

لا تخف من غيوم المكان القصي 

ليس لك من سبيل سوى الرحيل

إلى بهاء الكلام 

حرفك الذهبي هو البوصلة 

و اخضرار الجسد العليل

قبل ذهاب أولاد القرى الى الينابيع

خذ ما تبقي من ثمرات الفصول

و الاغنيات العتيقة

امي لا تنام على رصيف الخوف 

تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي و لا تلتفت للرعاع

صمتك أبهى من ضجيج القطيع 

لا تخف من زيف هذا الزمن اللعين

أكتب ورقاتك الحبلى بالبهاء

ففي البدء كانت العاصفة

معك الله و ذاكرة الأيام و انفتاح الحبر 

على الاسوار

هنا بيادر و دفاتر و صيحات الحناجر

هنا تخرج الاصوات من النفق القديم

و ترفع الرايات قبل الغروب

لنا ما ابقته الفصول

من ثمرات و حكم الاجداد 

و لهم ضجيج الازقة و تيه المرحلة

 

هل يكون البعد عن سراب المدينة غنيمة . تقول امه علي لسان النص :

" امي التي اسمها آمنة تقول لي فجر كل يوم:

كن بعيدا عن سراب المدينة

كن قريباً من بهاء الكلام

حبرك الذهبي هو السند

حين يغيب عن البلد الرجل الجسور "

والبعد عن سراب المدينة هو النصيحة الأكثر امنا قالت بها الأم "آمنة" والتزم بها هذا النشيد عنوانا للنص الشعري ، قدمه الشاعر التونسي الكبير البشير عبيد ، وقدم بها خيارا من اثنين . البعد عن السراب والاقتراب من بهاء الكلمات التي يجب ان يقوم بتدوينها ، وهي النصائح التي قامت آمنة بذكرها . نصائح آمنة كانت اشبه بالصلاة تتكرر كل فجر علي المسامع 

" لا تخف من غيوم المكان القصي 

ليس لك من سبيل سوى الرحيل

إلى بهاء الكلام 

حرفك الذهبي هو البوصلة "

والكلمات الذهبية كما جاء في نصائح الأم هي بضعة مقولات افصحت عنها باستخدام الأوامر والنواهي التي يجب ان تتم باستخدام حبره الذهبي ، والأم وقد خلع عليها النص صفات الأمن هي الحاضن المتوج في هذا النشيد : قد تكون وطنا بالقدر الذي يصبح في الإمكان تخصيصها كشخصية من شخوص تشكل زحاما ابرزه النشيد ، فتقديم النص لشخصية اخري خلع عليها صفات الجسارة ، قام النص بتعريفها بالرجل الجسور . " كان الرجل الجسور يعبر الجسر

العتيق

يسير وحيداً بعيدا عن بهاء الرخام " 

وبتعريف النص فوجود الرجل الجسور وهو يتجمل بصفات وجوده كاجتناب  الرفاهية وشق طريقه الصعب فوق الجسر العتيق ، كيما يصبح غيابه هو الدافع للأم كي تقدم نصيحتها للشاعر باللجوء الي كتابة الشعر . 

هناك وجود آخر علي هامش النص لحارس مقبرة 

" و اخذته خطاه إلى ينابيع الرؤى 

فجأة يباغت حارس المقبرة بالسؤال:

لماذا يخافون من الاتي.....؟

و اجسادهم غارقة في مياه الخوف "

وينابيع الرؤي هي موطن الحارس ، وبذا ينفتح النص علي حارس المقابر ومجموعة المقابر ، ومن خلال مضمونها اللغوي فالمقابر هي الموطن والملاذ لينابيع الرؤي ، والنص بذلك يتوجه بالحديث الضمني الي الحارس والي مقابر الأموات والي اولئك الذين لم يحين دورهم للرقاد في المقبرة ، فالرؤية بذلك تأخذ طابعها المركب : ايها الأحياء هذه المقبرة هي مستقبلكم ، انه مستقبل محكوم بالضرورة ، فلماذا تخافون من المستقبل وهو حتمي ، ولأن حاضركم قد غرق في مياه الخوف . فأين ذهب الرجل الجسور .

لكن امه لا تنام علي رصيف الخوف بينما يقتصر وجود الخوف علي ما اسماه النص بالرعاع او القطيع  

" امي لا تنام على رصيف الخوف 

تقول لي فجر كل يوم:

أكتب يا ولدي و لا تلتفت للرعاع

صمتك أبهى من ضجيج القطيع 

لا تخف من زيف هذا الزمن اللعين

أكتب ورقاتك الحبلى بالبهاء "

والرعاع رواد المقاهي حسب تعريف النص هم اولئك القابعون في ظلام الجهل ، ولم يسمح لهم الزمن بالوصول الي  ينابيع الرؤي ، وبذا فهم اولئك الذين يتصفون بالعمي والصلف 

" لا تخف من صلف الرعاع

صوتك العالي صادم للقابعين في الظلام

صمتك أعلى و اعلى من ضجيجهم 

في المقاهي "  

والصوت هو احرف الانشاد وأدواته الحبر ، والذي تحض الأم علي استخدامه  عبر نص يستكشف ويضئ المشهد بحذافيره ، ويكون المشهد جاهزا ليطرح النص سؤاله الرئيسي : الي اين  يتجه المشهد . 

يزدحم النص بالمحاربين ، فالحرب تدور رحاها في منطقة الشرق القديمة ، دون ان تلوح بادرة لإنهائها 

" حروب هنا في الشرق القديم

و لا أحد يعرف متى يتلى البيان الأخير "

ثم يعود ليطرح سؤاله العابر  

" كيف نسيت صوت فيروز و مارسيل 

و لم تذهب سريعا إلى خيام العابرين "

هل وجه ذلك الاستفسار الي الرعاع ، وهل كان الرعاع هم اولئك الذين ينقصهم التفاعل مع أنواع  الفنون : الأداء الغنائي لفيروز ، والأداء الموسيقي لمارسيل خليفة ، كيف يكونون علي مثل تلك الدرجة من الجمود وخاصة عندما نقوم بتقييم اداء الفت عندهما بمعيار الصلة الوثيقة بقضية اللاجئين . ان واقعة وجود خيام للاجئين تزيد المشهد زحاما . انها بالأحرى تضع مجموعات اللاجئين بين قوسين ، ولكن من المفيد القول بانفصام تلك الحروب المشتعلة في الشرق القديم عن وجود خيام لإيواء اللاجئين ، وهذا الانفصام لا يعني ان قضية الأمة الاساسية هي قضية قد تشرذمت لعدة منعطفات تتصل بروابط  ، فإذا ما قبلنا ذلك ربما يعم القول بوحدة المصير

" ففي البدء كانت العاصفة " 

كانت تلك الصيحة هو البادئة بوجود الزحام : مجموعات الجنود . مجموعات الرعاع . مجموعات اللاجئين في الخيام . مجموعات الموتى في القبور . افراد متنوعون . فيروز . مارسيل . الأم الحكيمة . الرجل الجسور وامرأة تنتمي اليه ، ويعلو هذا الجمع الشاعر وقلمه . 

قامت الشاعرة التونسية  امامة الزاير في قصيدة تأتأة بإلغاء العلم والمعرفة في سبيل قيامها بتمجيد الجسد ، فهل آن الأوان ليقوم البشير عبيد بالتنصل من امتداداته والتزاماته القومية لأسباب تتعلق بما اسماه النص بتيه المرحلة 

" هنا تخرج الاصوات من النفق القديم

و ترفع الرايات قبل الغروب

لنا ما ابقته الفصول

من ثمرات و حكم الاجداد 

و لهم ضجيج الازقة و تيه المرحلة "  

البون شاسع بين المواقف ، فتمجيد الجسد تعبير ضمني يتضمن دوافعه في صورة انسحاب من تلك المرحلة ربما بفعل الغضب المستعر ، اما تعبير الانسحاب من تيه المرحلة فهو تعبير ضمني يشمله نفس الغضب المستعر ضد الحروب المشتعلة دون هوادة في الشرق القديم ، ولا تبدو بارقة امل في ايقافها ، والانسحاب في تلك الحالة لا يتضمن منافع شخصية بقدر ما يعنيه النص من عوامل الاستنكار. 

Share To: