الأديب المغربي / عبد الرزاق الصادقي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "صديق في الذاكرة" 


الأديب المغربي / عبد الرزاق الصادقي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "صديق في الذاكرة"


كان لي أيام الطلب صاحب من أعز من عرفت من الصحاب، أسأل عنه إذا غاب، وأتفقد أحواله مدى الأيام، إذ قل أن أبصرت مقلتاي مثله جدا واجتهادا، وعزما وحزما، يعرفه الصف الأول من المسجد أكثر من معرفة الإمام، كل ذلك وهو صغير في السن لم ترب سنوه على العشرين، وكان ذا ذكاء ودهاء، كثير المراجعة لما حفظ، سريع الاستحضار له كلما طلب، لا يعرف النومَ إلا يسيرا، همته تضاهي السحاب سموا وعلوا، يتشبه بالسابقين الأولين، لكن الدعابة لا تفارق منطقه، والظرافة لا تحيد عن خلقه، كل تصرفاته تأتي على السليقة دونما تكلف، وكل كلماته بريئة من التعسف براءة الذئب من دم يوسف، شعاع فكره قراءة آية، ونور صدره يحكي ضياء الشمس في الأفق، عرفته وقد قدم من مدينة فاس، لا يسأل إلا عن العلوم والمعارف، ولا يتقفى غير السِّيَر والمواقف، ومع ذلك تؤثر فيه العبرات والعواطف، فهو صديق الخشوع، صاحب السجود والركوع لله رب العالمين، حفظ كتبا ليست يسيرة، وجمع علوما غزيرة، ولما أن سعدنا بمرافقته، ومتعنا بصداقته، وتنزهنا في بساتين أخلاقه ورياض نزاهته وأمانته إذا به يخرج مع الأصدقاء يوما في نزهة، وقد كنت حينها في مدينة فاس، ذهب مع تلك الرفقة إلى وادي أم الربيع، وقد أغراه النهر بمياهه السَّلْسَلة، فصلى العصر لعلها تكون آخر صلاة له، ثم توجه إلى الوادي مقتحماحماه، متجاهلا سرعة خطاه، وهو وإن كان ماهرا في السباحة إلا أنه لم يدر عن غدر المياه هذه المرة شيئا، حيث ظل يصارع داخل النهر الأمواج، ويتطلب في ظلماته الفجاج، لكن دون جدوى، يا ألله لقد لفظ الأنفاس، وغادره الإحساس، هجم عليه سبع المنون، فافترسه والأصحاب عنه لاهون، ولو انتبهوا لما استطاعوا له إنقاذا، إذ الموت لا عاصم منه إذا جاء موعده، وما إن علم الأصحاب بالفاجعة حتى تزلزلت منهم النفوس، وتضعضعت الأفئدة، لقد صعقوا، ثم أفاقوا، وكأنهم ثانية خلقوا، ما هذا يا رب، أي خبر هذا الذي أسمعه، قلت ذلك حين بلغني خبره، فما كادت نفسي أن تبرح مكانها، وبكت عيني وحق لها بكاها، وهل يجدي البكاء أو العويل، قلت والأسى يعتصر فؤادي :

لو كان لي قلبان عشت بواحد

                     وفديته  لو  كان لي نفسانِ

ومكثت مدة أنتظر قدوم جثمانه، لأودعه والبكاء يكاد يذهب بعيني، هذا المشهد لم يسبق لي أن بصُرْت به، غادر صديقي الحميم الدنى، وفي جنان الخلد إن شاء الله نلتقي، لكنه لم يغادر ذاكرتي ولا فارقت صورته يوما خيالي.




Share To: