المرأة العربيّة وأدب السجون |  بقلم الناقد عـلاء لازم العيـسى 

ـــ آمنة برواضي أنموذجًا ـــ 

المرأة العربيّة وأدب السجون |  بقلم الناقد عـلاء لازم العيـسى


( 1 )

     روايات السجون ؛ نوع من أنواع الأدب الروائي معني بتصوير الحياة خلف قضبان السجن ، وربّما تكون أول رواية تحدثت عن هذا الموضوع في الأدب العربي المعاصر هي (( وراء القضبان )) للمصري أحمد حسين ، وقد صدرت سنة 1949 ، إذ روى الكاتب فيها تجربته الخاصة في أحد سجون الاحتلال الإنكليزي في مصر . ثمّ تتالت الروايات ، فكانت  ( شرق المتوسط ) للروائي السعودي عبدالرحمن منيف ، وهي من بواكير الأعمال التي كُتبت في أدب السجون . ورواية (الوشم ) للعراقي عبدالرحمن مجيد الربيعي ، و (تلك العتمة الباهرة ) للجزائري الطاهر بن جلون ، وغيرها .  

    ومن روايات السجون التي صدرت قبل سنوات رواية (( على ذمّة التحقيق )) للأديبة المغربيّة آمنة برواضي ، والّتي فازت بجائزة الدورة الثانية للمهرجان الدولي للرواية بمدينة وجدة ، دورة أبريل 2016 ، ولستُ أخفي شيئاً إذا قلت أنني احتجت إلى قراءة هذه الرواية مرتين ، لا لأن فيها شيء من غموض ، بل لأنّها راقتني بسبب أحداثها التي كانت من بنات أفكار كاتبتها ، وابداع خيالها الخصب ، ووعيها الاجتماعي الحاد ، وليس من تجربة سجن ذاتيّة معاشة كما يحدث في العادة عند من يكتب في هذا النوع من الأدب ، مثل الدكتورة نوال السعداوي في (( مذكّراتي في سجن النساء )) ، وغيرها . 

( 2 )

   ابتدأت الكاتبة روايتها بإهداء نتاجها إلى كلّ المظلومين وراء القضبان ، ولم تحدد مكاناً بعينه ( في بلد  أو مدينة أو قريّة ) . كما أنّها لم تحدّد زماناً لأحداث روايتها ؛ نعم هناك إشارة في الصفحات الأخيرة إلى أن الدولة    ( مسرح الأحداث ) يحكمها ملك (( كان السيد الرئيس من زمرة من دخلوا  تواضعاً منه لم يجلس على الكرسي المخصّص للرئاسة والذي يأتي مباشرة تحت صورة جلالة الملك ))( ص145 ) . ولولا وجود بعض القرائن والإشارات التي جسدتها الكاتبة كالأمثال الشعبية ( النهار الأول كيموت المش ) ، أو ذكر اسم الفنانة المغربية الشعيبيّة ، أو ذكر مصطلحات من اللهجة المحليّة مثل كلمة ( برّاكة ) لما اهتديتُ إلى أنّ مكان أحداث الرواية دولة من دول المغرب العربي  . وهذه أولى حسنات الكاتبة برواضي ، التي أسّست لأمكنة روايتها الخاصة واكتفت بالتعامل مع المكان كإشارات ودلالات تخدم سياقه العام ، ومعالجة همّ إنسانيّ مشترك وعميق  بعيداً عن الأماكن المحدودة جغرافيّاً ، فمنحت النصّ خصوصيّة ابداعيّة ، وليست خصوصيّة جغرافيّة .  

( 3 )

    تجري أحداث الرواية في سجن يفتقد لأيّ شيء إنساني يستحقّ أن يسلّط عليه الضوء ، عالم غريب الأطوار ، بعيد كلّ البعد عن الرقابة والقانون ، يسوده صمت ممتزج بالخوف ، الغلبة فيه للأقوى ، لنزلائه قانون خاص (( سطّروه بجبروتهم وقوتهم وظلمهم واستبدادهم للنيل من الضعفاء منهم يُرضخون له كلّ داخل جديد ، السجناء تحت رحمة بعضهم وأحياناً كثيرة لا يتدخل الحراس لفك النزاعات القائمة لأن منهم المتواطئين بدورهم مع العناصر التي تتحكم في رقاب الضعفاء )) ( ص31 ) ، وفيه (( كلّ أشكال الرذيلة متاحة ، الفساد بأشكاله ))(ص56 ) ، وعندما يزحف الليل على هذا المكان لن تصغي سوى لطنطنة الصراصير والناموس ، كما أنّ الفئران (( تنشط في هذه الأجواء ؛ تقضي ليلتها تتخطى الرقاب التي أنهكها التعب )) ( ص59 ) . 

( 4 )

    تحكي الرواية ـــ التي امتدت لأيّام معدودات فقط ـــ قصة موظف شاب اسمه ( كمال ) يُسجن على ذمة التحقيق بسبب اتهامه بقضيّة فساد ، فيتعرف على السجين حسين ، وكان كلّ منهما في اتجاه معاكس لحياة الآخر في نشأته وتربيته ، ومع كلّ شخصية من الشخصيتين المذكورتين نكتشف وجوهاً مختلفة لشخصيّات أخرى .

    فحسين ( أنموذج الشخصيّة الجاذبة ) ؛ نشأ يتيماً في غرفة يتيمة فوق سطح بيت في حيّ شعبي ، قسّمتها زوجة أبيه المتسلّطة إلى جزأين ،      (( مستعملة في ذلك قطعة من الثوب فقدت لونها من كثرة استعمالها ، لتجعل من الجزء الثاني  مطبخاً ))( ص76 ) ، أدخله والده المدرسة لكن ظروف معيشتهم القاسية جعلته يغادرها قبل أن يتم تعليمه ، كما غادرها بقية أطفال الحيّ ، أدمن التسكّع مع الأقران في أحياء المدينة ، وبسبب إهمال والده المغلوب على أمره تجاه زوجته المتسلّطة ، وطمع هذه الزوجة ، دخل السجن بسبب السرقة التي حاول أن يبررها لأحد النزلاء بفلسفة غريبة : (( عمري كلّه سُرق منّي ؛ وإن كنت أعاقب على سرقة وأنا ما سرقت إلا ما هو في الأصل لي ، لقد قمت بعملية استرجاع حقّي الذي حُرمت منه ))( ص79 ) . لم يتعلّم حسين من المدرسة لكنه تعلّم من السجن أشياء كثيرة ، عجزت المدارس والمراجع والأيام تلقينها له (ص43 ) .  

     وكمال ـــ الموظف العصامي الشريف الذي يؤمن بمذهب المحبّة والسلام واللاعنف ( ص82 ) ـــ أودع السجن على ذمة التحقيق بسبب قضية فساد كيديّة دُبّرت بليل ، ثمّ أطلق سراحه بتنسيق تمّ بين حسين وفؤاد ؛ السجين الذي أطلق سراحه قبل مجيء كمال ، بعد أن (( ترك بصمته في المكان كروح ترفرف في أرجاء الزنزانة ))( ص22 )  فأحدث نقلة نوعية ، وتحولاً كبيراً ، في وعي وسلوك وتصورات حسين فيما بعد ، الذي بدأ باستعادة إنسانيته ، وأسهم فؤاد أيضاً ـــ بحكم وجوده خارج السجن ـــ في جمع الأدلة التي أثبتت براءة كمال . لقد كان فؤاد    (( أستاذاً للنبل والمشاعر الفيّاضة بالإنسانيّة ))( ص65 ) ، وكان        (( يحتمي وراء الألوان والريشة من كلّ المناقشات التي تدور حوله ، كان قليل الكلام ؛ ربّما وجد في الرسم مهرباً وملجأ يحتمي فيه من أيّ شر محدق به ))(ص 64 ) .  

( 5 )

    أما الشخصيّة الرابعة ( رشيد ) فتوة السجن ( أنموذج الشخصيّة المرهوبة ) ، فخلافاً لما تعكسه مسيرة الإنسان عبر العصور ، من نزوع نحو دفء العلاقات الإنسانيّة ، وحميميّتها ، فإنه يسعى جاهداً للتهرّب من أسوار الحياة الاجتماعيّة ، بتفضيله حياة السجن على أن يعيش طليقاً ، وإظهار نفسه بمظهر القويّ المسيطر .

وهنا تستثمر الكاتبة إحدى ركائز نظرية النمساوي فرويد في انسحاب العالم الخارجي وارتداده إلى داخل الذات ، وتأثير ذلك على العقل الباطن ( اللاشعور ) للشخص ، ومن ثمة تأثيره على مواقفه وسلوكياته ، إضافة إلى استثمار نظرية الشعور بالحقارة لعالم النفس ( أدلر) ، فبسبب احتقار الناس لرشيد وابتعادهم عنه ، وتنكّر زوجته له ورحيلها مع ولدهما دون أن يعرف لهما مكاناً ، وعدم تعيينه في دوائر الدولة ، أصبحت مملكته الزنزانة ، كلّما خرج منها تعمّد (( أن يقترف ذنباً ليعود فوراً ))( ص 32 ) ، محاولة منه للتغلّب على الشعور بالنقص والحقارة بواسطة السيطرة والتفوق على الغير. وربّما ذكرت الكاتبة شخصيّة شريكة في الزنزانة لكنها غير مشخّصة ، ولا تحمل اسماً تُعرف به ( ص19 ) ، تهدف بذلك إلى تمثيل مطلق للتجارب الإنسانيّة المشابهة . 

    ومن التقنيات التي لجأت إليها الروائيّة برواضي في تقديم شخصياتها ـــ التي كان تطورها منظّماً ومنطقيّاً ـــ هي الطريقة التحليليّة ، وذلك برسم الشخصيّة من الخارج ، ورصد مشاعرها وأفكارها من الداخل ، بواسطة شخصيّة أخرى ، وقد توضح ذلك في التعرف على شخصيّة طارق شاعر السجن ( ص89 ) ، وشخصيّة عزيز ( ص91 ) . وبما أنّ موضوع الرواية هو السجن ، فقد أخذت الشخصيّات الأخرى خارج أسوار السجن مساحة قليلة لا تحسد عليها ، وهم : رئيس كمال في العمل مجهول الاسم ، وأربع نساء : زوجة أب متسلطة وظالمة مجهولة الاسم ، وأمّ كمال ، والموظفة الماكرة التي أغرت كمال بابتسامتها ، وشكواها المتكررة من سوء تدبير الإدارة ليطمئن إليها ، حتى انطلت عليه الحيلة ( ص53 ) ، وموظفة أخرى اسمها حياة (ص148 ) ، والعم عيسى (ص134 ) . 

( 6 )

    لقد كانت الرواية واقعيّة في توجهها ، اقتربت من التقريرية بعض الشيء ، وقد استخدمت الكاتبة في السرد والحوار والتعليق اللغة العربيّة الفصحى ، ولكي تمنع الملل من التسلل إلى نفس القارئ ، قسّمت روايتها على فصول ، وعملت بتقنية الاسترجاع ، وذلك باختراق الزمن الروائي اختراقاً رجوعيّاً بواسطة التذكّر . ومن خلال سير حركة الحدث الروائي ، نجد الكاتبة تزيد من تعاطف القارئ النفسي والوجداني مع السجين حسين ، عاكسة على حركته وتحركاته داخل السجن ( العنبر / الزنزانة ) بعض الحقائق والأفكار ، ولم تخلو الرواية من مقاطع حكمية ، اكتسبت حكمتها من التجارب الحياتية بتناقضاتها المتعددة ( ص127، 149 ) . 

( 7 )

     لقد تضمّنت رواية ( على ذمّة التحقيق ) للأديبة المغربيّة المبدعة آمنة برواضي ثنائيّتا ( الاستياء / الطّموح ) ، فهناك استياء من القيم السّائدة في المجتمع ، وطموح نحو قيم كيفيّة جديدة ، وهذه أهمّ صفة من صفات العمل الروائي الحقيقي ـــ كما يرى الناقد جولدمان ـــ ولهذا عرّف الرّواية الحديثة بأنّها (( بحث عن قيم أصيلة في عالم منحط ))( مقامات في سوسيولوجيا الرواية ، جولدمان ص 21 ). لقد استطاعت برواضي أن ترسم ، وبدقة تُغبط عليها ، أبعاداً مكانيّة ونفسيّة واجتماعيّة وسلوكيّة ، لمكان مغلق غير مألوف لكثير من الرّجال فكيف بالنساء ، وأن تلتقط ما شاء لها الالتقاط من مشاعر وأحاسيس إن دلّت على شيء إنّما تدلّ على وعي الكاتبة وابداعها ، فقصّرت المسافة بين المتلقي وبين اكتشاف هذا العالم المجهول بالنسبة له ، وعالجت همّاً إنسانياً عميقاً ، فألف تحيّة لها ولإبداعها .   

   ...............................

   × آمنة برواضي : قاصّة وروائيّة وشاعرة وناقدة مغربيّة ، حاصلة على الإجازة في اللغة العربيّة وآدابها من جامعة سيدي محمّد بن عبدالله فاس سنة 1987 وتشتغل بالتدريس منذ 1990 . أعمالها المنشورة : تسع روايات ، وخمس مجموعات قصصيّة ، مع مجموعة قصصيّة ( عمل جماعي ) ، وثلاث دواوين شعر ، ولها إسهامات في الكتابة للأطفال .




Share To: