الكاتب والقاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب "رامي الحدق"


الكاتب والقاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب "رامي الحدق"

 


وقف مُتسمّراً في مكانه ، قدماه الداميتان توغلان في المياه لنصف ساقيه العاريتين ، كل (المياه هنا حوله بلون الغرق ).. 

هو وإمرأة ثكلى ، وطفلان دون العاشرة يتشبثان بثوب أمهما المنتحبة ، أصوات ضفادع تعلو وتهبط من مكان بعيد ، هاقد خيم الليل وأسدل سدوله في بهمته الحالكة .. 

أنواء بعيدة تتأرجح من على إنحدارة الأفق ، أصوات متداخلة يُصعب تبيان مصدرها ،

هذه طفلة حيرى وهي مغسولة في (طست) براءتها ، أين ذهبت أمي ؟


وهاهو ذا طفل يتحدّر من مقلتيه خيطا دموعٍ وفي قبضته خبز يابس يلقم به قرقعات مَعيّه المتلوية وعيناه في تساؤلٍ مستمر أين ذهبوا إخوتي ؟ لربما يمارسون عادة التستر في لعبة (الغميضة والتخفي) قد يكون ؟! .. 


شيخ ذا لحية كثة يحرك حبات مسحبته في قلق ملحوظ ، يدير رأسه بعبثية في إتجاهات غير مفهومة كنعامةٍ فزعة ، يحاول أن يتماسك قدر المستطاع والممكن ، يفشل فينهار في نوبة بكاء هستيرية ، يتحشرج كمن إعترضت حلقه قطعة لحم غير ممضوغة ، تتعالي حشرجاته المتصاعدة وينفصل عن واقعه في إغماءةٍ متصلة ..


رجال هنا ينتصبون واقفين متيبسين من هول الفاجعة وهم يفغرون أفواههم بشفاه متهدلة ، وكأنما حنطتهم اللحظة وأضحوا كمومياوات قديمة ..

 

شجرة نيم عملاقة تتوسد الطين وتلتحف ظل مزنات حبليات لا تزال تشكّها طلقات المخاض ، تنطف المزنات بغزارة أحياناً وأحايين أخرى في نسق تباطؤي (طق ، طق ، طق) ، لا تكف أرحامها عن الإمتلاء ، تتكدس سراعاً وبنفس السرعة تفرغ حمولتها وكأنها ثُقبت بأنصال حادة الشفرات .. 


يتوشي المكان هنا كله بلون الغرق ، رائحة الموت تختلط مع تعطّن المكان برائحة الطين المُتهدّم ، بيوت واجيال وذكريات طُمرت هنا تحت الماء ، في لمحة عينٍ وإنباهتها هاقد إستحيلت القرية لكومة من الأنقاض .. 


كل القصة تكمن هنا في بحر ثلاثة أيام فارطات أفرغت السماء حمولتها فوق أقبية هذه البيوت الواهنة ، هذه البيوت التي كانت تتراص على إمتداد القرية في شكل هندسي يوحي للناظر من علو شاهق كمشهد سوارٍ يحيق بالمعصم ، الآن بدت كما لو تكون جبل من طين متراكم .. 


إندفعت السيول من هنا عبر وادٍ يلفّ القرية بتسارع مفرط ، حادت السيول عن مجراها المألوف وجرفت كل ما تمرّكز أمامها وكأنها تقتصّ من مقتل أحد ما .. 


خمسمائة رأس من الماشية ، أطفال كان يرشفون الحليب في وقت يعقب تخضب المساء بالشفق ، عجوز كانت تدق حبات القهوة في مدقّ من الفخار ، فتيات كن يجدلن خصلهن على ضوء هذه الليلة القمراء ، أطفال كانوا يلعبون ويتغنون(شليل وينو ، شليل وين راح ) ، سيدة أتاها المخاض ورأس وليدها على وشك الإنزلاق ، شاب في مقتبل الحب كان يناغي حبيبته عبر أثير الهاتف ، إمرأة كانت تعد (ملاح أم رقيقة) لزوجها العائد لتوه من الجبهة ، وزوجها المضطجع قبيل لحظات في عنقريب ذي نسج واهن وفي جراب حكاياته الكثير عن جبهات النضال .. 


طفلتان كانتا تطاردان فراشة أجنحتها بلون الشفق ، وصبي مصاب بمتلازمة (الحب) يصفق للقمر وهو يختبئ ويطل من بين شقوق السماء 


وعجوز هرم كان يعدل من وضعية (لاقط) المذياع ، ليستبين ما يتفوهونه من هُراء عبر إذاعة هنا الوطن ..


كل هؤلاء تبخروا سراعاً وكأنما تنزل شيطانٌ ما من مغارة معلقة وإختطفهم على عجل ، جرفتهم السيول التي كانت تهدر كمحركات نفاثات عملاقة تُذرع قبة السماء والأفق .. 

نصفهم إبتُلعوا هكذا في عملية مباغتة ، والنصف الأخر قضوا نزعهم الأخير تحت الأنقاض .. 

مامن عمليات إنقاذ إتخذت موضعها الصحيح ،


الرجل المتسمر في مكانه والمياه تصل لنصف ساقيه العاريتين حاول أن ينتشل طفلتيه اللتين كانتا تطاردان فراشة أجنحتها بلون الشفق ، لم ينجح في عملية الإنقاذ ، لقد كان السيل أسرع من عدوه على جانب الوادي .. 


والطفلة الحيرى والتى كانت مغسولة (في طست) دهشتها كانت تنتظر مقدم أخيها الذي تخلّق في جوف أمها قبيل أشهرٍ تسعة وأيام ، لم تهنأ أن تتنعّم بملاطفة قدميه القرمزيتين وإفتعال تشاكسات الطفولة على إثر سحب بساط الإهتمام لصالح المولود الجديد ..


الشيخ ذو اللحية الكثّة المحرّك لحبات مسبحته كان ينتوي رشف فنجان القهوة التي كانت تُطحن على المدقّ ، ينتظر العجوز وهي تقدمها على فنجان من مزاج ، ليتجاذبان سراديب الحكايات ووهج الأمسيات الحالمة ..


الرجال المتيبسون من هول الفاجعة وهم يفغرون أفواههم ذات الشفاه المتدلية ، ماسوى محاربين حاولوا وضع المتاريس في وجه السيل في مجراه وهو يبذر الفوضوى ، كادوا أن يتلقفوا الفتيات اللواتي كنٌ يجدلن خصلهن تحت ضوء هذه الليلة القمراء ، ولكن الأنقاض خسرت تماسكها في آخر لحظة تسبق الإنقاذ .. 


شجرة النيم العملاقة التي تتوسد الطين وتلتحف ظل المزنات الحُبليات ، جفلت (قمرية) من عشها وجلى وخلفت ورائها فرختين لم تتنزهان من زُغبيهما الأحمر بعد .. 


هكذا كانت الفاجعة ، وهكذا كانت فداحة هذا الكم من الفقدان .. 


الشئ الوحيد الذي بقى في وجه التيار المذياع ذي اللاقط المتذبذب ، طفقت الأصوات بداخله تهرطق بدون إستحياء ، المذيعُ ذو الصوت الجهوري في نشرة الساعة :


الحكومة تعلن إستعداداتها لخريف هذا العام ، وعلى القاطنين محاذاة النيل توخي الحيطة والحذر .. 


المالية تستصدر قراراً بتكوين الآلية الوطنية لدرء السيول والأمطار ، وتخصص ميزانية معتبرة لتحصين القرى المُهددة بالسيول .. 


الدفاع المدني يرفع إستعدادته القصوى لمواجهة تبعات الكوارث والفيضانات ، وحكومة الولاية تبارك الخطوة وتصفها بالمثمرة ..


وعلى السياق ذاته والى الولاية ووزرائه بصدد إجراء جولات ميدانية لمحليات الولاية المختلفة وذلك في سبيل حصر الأسر المتضررة جراء تدافع السيول والأمطار ..


ونائب رئيس مجلس ....... (خششش ، خششش ، خششش) 

خفت صوت المذياع رويداً رويداً ، لربما هذه الأكاذيب البلقاء التي بُثت عبر أثير (هنا الوطن) كانت ذريعة كافية للمياه أن تندفع داخل جهاز الراديو ليكون هو الآخر أيضاً من ضحايا الفاجعة ..  


.

.

.

.





Share To: