الكاتب المغربي : إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نفوس مهشمة" 


الكاتب المغربي : إسماعيل بخوت يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "نفوس مهشمة"



ركن شاحنته بعد يوم شاق من العمل، حرقت الشمس يديه و ذراعيه على المقود، لم يعد يستحمل حرارتها، و   لا جلوسه لمدة طويلة خلف المقود، بدأ يشعر أن نصفه الثاني تجمد بعد حوالي عشر ساعات من العمل المتواصلة من السياقة دون توقف.

شعر بالراحة و هو يركن شاحنته، كانوا مجموعة من السائقين قد ركنوا  شاحناتهم قبله، بحركة واحدة ترك روح المحرك تتوقف عن الخفقان، أحس بنفسه أنه ذبحه من الوريد إلى الوريد، شعر بالهدوء، كل ذلك الضجيج الذي يبعثهُ فيه صوت المحرك قد ذهب بتوقفه، خلع السترة الصفراء على جسمه التي يرتديها من الصباح، لا يستحمل ارتدائها، لكن من الواجب عليه أن يرتديها، هكذا تقول القوانين في مطرح إفراغ الحمولة.

علق محفظته الصغيرة على عنقه، حمل هاتفه و لف سماعاته و وضعها في جيبه، فتح صندوق حفظ المعدات خلف مقصورة الشاحنة، كانت نعاله البلاستيكية تنتظره هناك، تحركت ابتسامة خفيفة على ملامحه الشاحبة بعد أن شعر أنه سينزع حذائه الثقيل من رجليه، كاد يخنقهم، شعر بالحياة ذبت فيهم و هم يتلفقان نسيم الهواء، وضع الحذاء في الصندوق و أغلق عليه، لا يحب ارتدائه، لكن من الواجب عليه أن يرتديه، يعتبر من مستلزمات الحماية، هناك من لا يرتديه من السائقين، لكنه يضحك حتى ضرسه الأخير عندما يرى المراقب، غالبا مراد ما يبادله التحية بطريقة باردة، و باهتة، يُوقِفه من وسطهم، يُمَوِهه أنه يريد أن يخبره بشيء، و يفتح عليه الباب دون إذن، دائما يخيب أمله، حاول أن يفعل مثلهم، لكنه لم يستطع، في نظره هو رجل لا يستحق، وحدهم ذوي القلوب البيضاء يجد  نفسه يبتسم في وجههم تلقائيا.

ترقب أبواب الشاحنة قبل أن يغادر، هل فعلا أغلقها؟  كانت مغلقة بالفعل، لف ذاهبا حيث يقطن، كان الشارع ممتلئا بالسيارات، استرق النظر للحارس الليلي للشاحنات، نزل للتو من سيارة الأجرة.

 أشعل سيجارته بالكاد نزل منها، كان حبها يخنقه و هو جالس بين الركاب، كان ينتظر أن ترتطم قدمه بالأرض ليطلق العنان لولعه. أتى محملا بكل الهموم التي تأكله من الداخل، هموم العائلة و الأبناء و الزوجة.

دخن كثيرا و لم يستطع طرد شيء من همومه، تلتصق به و لا تريد أن تفارقه، شرب عليها عبوات عديدة من النبيذ و لم يستطع التخلص منها، فعل كل ما ملى عليه المجتمع و لم يرض عنه في الأخير، كان هذا الأمر يزيد من حدة السواد المتراكم في دواخله.

 أطال النظر في الشاحنات المصفوفة، كانت هناك مسافة تفصل شاحنة مراد عن  الشاحنة التي أمامها، تركها عمدا من أجل أن تخرج الشاحنة التي في جانبه صباحا، غالبا يخرج قبله، يريد كل يوم أن يأكل جرعته من العمل بسرعة و ينتهي، لا يتوافقون في هذا الأمر، يريد مراد أن ينام نصف ساعة  زيادة بعد أن يخرج.

تبادلا التحية بطريقة باهتة، شغله سؤال لماذا شاحنته ركنها بعيدة شيء ما عن الشاحنة التي أمامها ؟، نادى عليه بعد أن تجاوزه بعدة أمتار.

مراد، مراد.

التفت نحوه، لم يعرف حقا، ماذا يريده ؟، قبل  أن يسأله عن  ماذا يريد أضاف قائلا: 

خليتي كاميو بعيد، قربيه شوية.

أحس به أنه يريد أن يرجعه إلى الجحيم الذي تخلص منه للتو، لم يستحمل الرجوع إلى  الشاحنة  وتشغيلها من جديد، في رأيه لا داعي، الموقف كبير و عدد الشاحنات الذين يركنون محسوبين على رؤوس الأصابع.

نفسيته لم تكن تسمح بأن يشرح له كل هذا، كان يريد أن يغرب عن وجه الشاحنة فقط.

أجابه: صافي غي خاليه تما راه باركينغ كبير، و راه ما بعيدش بزاف.

نفسيته تأججت، برغم أنه لم يبدأ العمل بعد، و التحق للتو، أجابه قائلا: 

وا صاحبي قرب لي كاميو عند خوه ما تكونش معكس.

عندما لامست كلماته مسامعه، جزم مع نفسه أن الشاحنة ستبقى هناك و لن يعود إليها، أجابه و فتات لعابه يتطاير من فمه:  أنا معكس نيت، لكن ذاك مشقوف غادي يبقى تما.

تجمد في مكانه لم يقل شيئا، عرف أنه  أضاف البنزين على نار بطريقة حواره الفاشلة.

لم يعد ينظر إليه، لف بجسمه حيث هو ذاهب و لوح  بيديه في السماء غاضبا: جريه لقدرتي.

لم يقل شيئا، تمنى لو لم يكلمه، و لو تركه يذهب بعد أن تبادلا التحية، طول مدة العمل هشمت نفسيته، لم يعد يستطيع أن يستحمل الحديث مع أحد.

جلس ليتناول وجبة الغداء، لم ينزل إلى بطنه شيء منذ حوالي التاسعة صباحا، الآن حوالي الرابعة و النصف، أخذ طبقه المفضل،  صدر دجاج مشوي و سلطة و كأس شاي، لم يحرك في شهيته شيء، لم تكن لديه الشهية، ترك الغداء حتى ينهي عمله، حواره مع الحارس الليلي، زاد من حدة تهشم نفسيته الجريحة، كره حواره معه، لم يرد أن يتشاجر معه، لا يحب أن يجرح أحد، تمنى لو غض الطرف و لم يحاكيه قط.

دفع نفسه لتأكل رغما عنها، لم تأكل إلا قليلا، لم يستطع تذوق اللقمة كما تذوقها ليلة البارحة، كان يوما حالكا مسودا و إزداد تأزما بعد أن أحس أنه يهرب مما يخنقه و اعترضه الحارس الليلي، ظل الحوار يتردد في ذهنه دون توقف قرأه من جميع الزوايا. تسلل صوت يخبره أنه لو قرب شاحنة لما وقع ما وقع.

كان عنيدا، أجابه بالطريقة التي فكر بها، هو الآخر لو لم يكلمني لما حدث ما حدث.

ترك نصف الصحن، لم يأكله، سدد ثمنه و صعد إلى حيث يقطن، كان يسكن في الطابق الثالث، فضل أن يستحم يريد أن يتخلص من الغبار الذي بدأ يستشعر أنه ملتصق بجسمه، كان يبحث فقط عن شيء من النشوة، قال ربما الماء يبعث فيه شيئا من الحياة.

وضع الحارس الليلي أغراضه في الشاحنة فورد المعطلة التي لا تغادر الموقف، ينام فيها عندما يفرض النوم نفسه عليه،  كانت القنينة التي تحفظ  ما تبقى من نبيذ ليلة البارحة،  ما تزال محفوظة خلف  مقعد السائق كما وضعها، حرك القنينة بيديه بالكاد أخرجها خارج الشاحنة، تبين له أنها ما زالت تحفظ حوالي نصف لتر.

جلس مقرفصا جانب العجلة الخلفية للفورد، اتكأ  بظهره عليها، خاطب القنينة و هو يفتحها، أنتِ وحدك من تستطيعين أن تنسيني سواد هذه الحياة التي أعيشها.

وضع فمه على القنينة صعد بها شيء ما إلى الأعلى، ظل يشرب حتى انتهت، يفتخر بنفسه أنه شارب خمر محترف!

ارتدى ثيابه النظيفة بعد أن تمدد حوالي نصف ساعة بعد الاستحمام ، شعر بنفسه أنه أصبح إنسان من جديد، هكذا نشعر عندما نتخلص من ملابسنا الرثة، غادر المنزل، توجه لأخذ وجبته اليومية من القهوة، لم يفارق حارس الليلي ذهنه، حاول ما أمكن أن يطرده، لم يستطع التخلص منه، واعد نفسه بأنه سيذهب إليه بعد أن يأخد حقنته من الكافين، أراد فقط أن يشرب قهوته بذهن رائق.

ولج المقهى، كانت الزاوية التي يجلس فيها دائما فارغة، يفضل أن يجلس وحده، بهذه الطريقة يشعر بنفسه يستمتع أكثر، و تتاح له الفرص في تدوين ما يريد و البحث عما يريد.

كل العيون تقريبا، كانت مغروسة في التلفاز، جلس غير أبه به، ربط هاتفه بأنترنيت المقهى، و تسرب إلى العالم الافتراضي ليسمع لمن يريد.

غادر المقهى بعد أن بدأ يشعر أنه تعب من الجلوس، شعر أنه أصبح في حالة رائقة، يمكنه الآن أن يتجاذب أطراف الحوار، وقف عند باب المقهى، كان الحارس الليلي مايزال يسكن عقله، شيء من ذلك الحوار كان يجرحه في الداخل، لم يتوافقا في الحديث، كل أحد منهم كان قنبلة موقوثة، نفوسهم مهشمة تريد فقط أن تفرغ ما تحتويه، أن تنتقد، أن تقول شيئا، كل طرف يظن أن الآخر يشعر به، لا أحد يشعر بأحد في هذا العالم، كل شخص يفكر في نفسه فقط.

حاول شق الخبيث في نفسه أن يقنعه أن ذلك مجرد  سكير، لا يستحق الاعتذار، لا يستحق من يطبطب عليه، أخبره أن يتركه و شأنه و يدفع له ثمن خدمته يوم الإثنين و هنا المياه سوف تعود إلى مجاريها.

شد هذا الصوت من عنقه، دعسه، رماه في الحاوية، توقفت حركة السير عند ضوء الأحمر، قطع بشكل مرتاح، يكره التكلم مع شخص دون أن يتجاذب معه أطراف الحوار في موضوع الخلاف، العلاقات لا تستقيم إلا بتنقية الجراح و مناقشة ما حدث.

وجده يلعب الورق مع أصدقائه عندما وصل إلى موقف الشاحنات، كانت تلك المسافة التي تركها مراد جعلت جلستهم مكشوفة للكل، ابتسم بالكاد رآه، عرفه أنه جاء من أجله، ضحك مراد في وجهه دون توقف، عانقه دون أن يقول له شيء، طبطب على نفسيته الجريحة، أخبره بكل شيء، لم يعد في حاجة إلى ذلك، أجابه قائلا: بعد أن سمع سبب ركنه للشاحنة بتلك الطريقة. 

بلاصي هذه مرة فينما بغيتي.

قهقه مراد ضاحكا، لا، لا، لا، لا.

علاش ما قلتيهاش ليا ديك الساعة.

نظر إليه مراد بعيون مايزال يلتصق بها شيء من التعب، و الابتسامة بدأت تختفي من على محياه و هو يرتب كلماته في ذهنه ليجيبه.

فهم  كل شيء، قبل أن يتفوه بكلمة، كان في حالة نفسية، لا يريد أن يكلم أحدا، أن يبرر شيئا، هشمه ضغط العمل، جعله جثة فقط تمشي فوق الأرض، لا تريد أن تحاكي أحدا.




Share To: