الكاتب المغربي / محمد العمومري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "أمي تناديني"
كانت عيناي مسدودتين لمّا نهضت بنوع من الفزع استجابا لنداء أمي الصباحي: - عبد الله! وا عبد الله.. انهض يا بني! أبوك في انتظارك.
فتحت شفتاي بصعوبة لأبدي موافقتي بكلمة صدرت معها بحة إعياء، بحة مَن حال الأرق بينه وبين نومه المبكر دون أن يجد للتخلص منه سبيلا، بدا ما قلته دون وعي تام مني كسيارة قديمة -استدل بارشوكها الأمامي حتى اقترب من الأرض، ونال من سطحها الصدأ الشديد، دون أن تسلم منه جنباتها الأخرى ـ شارفَت على الانطلاق.
أجبتها قائلا:
- طَطَ...يّيّيّ..يّي...ب.
ثم عاودت النوم، وكم ازداد النوم لذة بعد هذا السيناريو المرعب رغم أنه مجرد نداء حنين، سيناريو أهرب منه كما تهرب حشرة من نعل مصوب لها، لكن لا مفر منه كما لا مفر للحشرة من النعل، انتقلت حينها من الحلم الأول الذي استمتعت به قبل نداء أمي -وسرعان ما نسيته- إلى الحلم الثاني.
وبعد النداء الذي لم يُجدِ نفعا، استويت والركل على ظهري، مع نبرات تقول:
- انهض يا رأس البغل، وإلا كسرت عظامك في ظهرك.
طأطأت رأسَ البغل هذا مقبّلا يدها ومتوسّلا إليها أن تكف عن فعل ذلك بحجة أني سأتبعها في الحال.
ولأول مرة وبعد مغادرة أمي الغرفة، ذهبت لأفتش ذلك الصندوق المهترئ المنسي في الركن القريب من الباب، فتحته بصعوبة لأن الصدأ قد نال منه عندما كان مهملا في غرفة الألعاب ومكونات المنزل سواء المستعملة دائما أو التي لا دور لها أصل، تلك الغرفة الموجودة بالسفلي والتي كانت تتخللها قطرات المطر في فصل الشتاء وضوء الشمس الشديد أيام الصيف..
فتحته، ورفعت بابه عاليا لأتمكن من رؤية ما بداخله، أدخلت يدي لأنقّب في الأماكن المظلمة فيه، وأتبعتها يدي الثانية لأحمل شيء بدا لي لامعا في الصندوق، التقطته وجلست أتأمله، يبدو للوهلة الأولى من الآلات التي تصنع الكلمات، أو بالأحرى ترتب الحروف لتنتج مسرحية لشكسبير أو قصيدة لدرويش، ذلك العجب العجاب، ماذا يفترض أن يكون؟ ..
بدأت أدوّره في يدي وأحاول تشغيل كل زر فيه، وبعد محاولات عديدة برق منه ضوء لامع، وخرج منه تيار وموجة ضوئية تبدو كالسحاب، سحابة غطت الجانب الأيسر من الغرفة بما في ذلك الباب، فوجدتني محاصرا، لا النافذة دون شباك حتى ألقي بنفسي منها فارا من هذا السحاب، ولا الباب موجودة يمينا أخرج منها لنفس الغرض، لكن الباب يسارا وهي غطت كل ما وجدته هناك، في ذلك الركن الأيسر من البيت..
بدأت دقات قلبي تتسارع، واحمرت وجنتاي، وارتعش جسمي، وبقيت واقفا متسمرّا ويدي على مكتبي، ولوهلة رأيت أن الآلة تطبع ورقة بيضاء وسطها جملة واحدة مكتوبة باللون الأصفر، اللون الجذاب الذي يدل على السعادة، قررت أن أقرأ ما في الورقة لأنه ليس عندي ما أفعل عدا ذلك، أخذتها ووجدت بالفعل جملة عليها تقول " ارم بنفسك في السحابة!" حينها زاد جسمي بالارتعاش، وأحسست بدوران في رأسي، لكن سرعان ما ثبّت نفسي، وبدأت أحدثني: "ماذا لدي أفعله غير ذلك؟ لِم لا أستجيب لطلب الورقة اللعينة وأترك الأمر للسحابة؟" راج منها أن تختفي حين أغمض عيني وأعد لثلاثة وألقي بجسمي عليها، فأجدني خارج عتبة الباب..
لكنها لم تفعل ما رجوتها، ولم تختف لكي أسقط على الأرض، وأقف مع جرح طفيف وأسارع إلى أمي، بل حملتني، وبسرعة فاقت سرعة الضوء وجدتني ملقى في غرفة أخرى، هذه الغرفة تبدو مهجورة منذ زمان، لا يعيش فيها أحد، حاولت أن أثبت نفسي من جديد، وحاولت أن أتقبل نوعا ما هذا الذي صرت فيه، لكن دون جدوى، وقفت متثاقلا، وعبرت السلالم للأسفل، والغريب أن المنزل مثل منزلنا تماما، لكن منزلنا نظيف وبه أمي وأبي، و هذا نتن ومهجور فيه أنا فقط، خرجت من الباب الكبير وإذا بي أرى حديقتنا قد تآكلت وأصبحت حطاما، وذلك الجدار الكبير جنب المنزل مختفي.. حينها تأكدت أن المنزل منزلنا، لكن ما الذي حصل حتى صار هكذا؟
- ماذا أرى؟ ماذا يفترض بالسحابة فعلت بعقلي؟ ما هذا الجنون الذي أراه؟ ما هذا العبث الذي أصبحت أعيشه منذ فتحت الصندوق؟
وبعد دقائق وأنا أتجول متهالكا علّي أجد تفسيرا لما أراه رمقت مكانا للجلوس، وجلست، وما هي إلا لحظات حتى جاء شابان يبدوان أصدقاء منذ الطفولة أو ربما أخوان ووجداني غارقا في تفكير، جلسا بالقرب مني، وشرعا في الحديث، من موضوع إلى موضوع، وأنا مصغ لهما، ما هي إلا دقائق حتى قال أحدهما للأخر:
- أسنشاهد مباراة كأس العالم بين المغرب وفرنسا اليوم؟
ورد عليه بالقبول، سخرت منهما في نفسي وقلت للسائل:
- صديقي عن أي كأس عالم تتحدث ونحن في عام ٢٠٢٠، ولم تكتمل السنوات الأربع بعدُ حتى ينظم كأس عالم آخر، بعد آخره سنة ٢٠١٨؟
على اعتبار أن كأس العالم ينظم كل أربع سنوات، فقال لي:
-أأنت مجنون!
قلت له بنبرة أسف:
- لماذا؟
فقال:
-نحن في عام ٢٠٤٢!! وعن أي ٢٠٢٠ تتحدث؟ أأصبت بالزهايمر مبكرا يا صديقي!؟
ونهضا وهما يضحكان، وانصرفا، وتركاني في اندهاش وصدمة وحيرة، وتساؤلات عدة، أيفترض أن أكون قد سافرت عبر الزمن اثنتين وعشرين سنة للمستقبل!؟ لا هذا غير معقول، عقلي لا يستوعبه، ومن فعل بي هذا؟ أتلك الآلة التي سخرت منها في البداية هي السبب؟ أتلك السحابة المشؤومة رمت بي إلى هذا العالم المليء بالغرباء؟
هذه المرة ضربت أمي برحاها على قفاي بحنان، وقالت بغير نبرة البهيمة:
- ما لك يا ولدي نائم فوق هذا الصندوق؟ أعندك ما يؤلمك؟
أدرت وجهي ببطئ وقمت بحدائها قيام كهل نالت منه صروف الزمن، وعانقتها عناق مغترب قفل بعد سنوات، وقلت:
- كدت أن أجن يا أمي، لقد فقدتك في حلمي، كان كابوسا لا يحتمل، ليتني لم أنم الليلة البتة.. ليتني لم أنم..
وسألتها سؤال من يريد أن يتناسى شيئا ما -كنت أريد أن أتناسى الكابوس-: أين أبي؟
فأجابت:
- إنه في الأسفل ينتظر نهوضك.
إلا أن جوابها عن السؤال لم يكن لينسيها ما رأت عينها وسمعت أذنها، إنها لم تكد تصدق أنني وصلت هذه الحالة بسبب حلم فوق صندوق.
- طيب، سألحق به قبل أن ينصرف: قلت
لكنها استوقفتني ولم تدع الحادث يمر دون أن تطمئن علي، وسألت من جديد:
- أي حلم جعلك تبدو شاحبا هكذا يا بني..؟
- إنني فقدتك وأبي في حلمي.
- كيف؟
وبدأت أسرد عليها ما رأيت.. ولما طال بها حديثي استوقفتني مرة أخرى -لكن هذه المرة من الكلام- وقالت أوجز يا بني فإن التفاصيل أحيانا تذهب المتعة.
فقلت: - عن أي متعة تتحدثين في ظل هذا الكابوس الكئيب يا أمي!..
فردت ضاحكة: - إنه حلم جدير بأن يحمل صفة المتعة يا بني.
ثم ساخرة: - كأنه قصة خيالية نسجتَ خيوطها فوق صندوق أبيك القديم، يا لك من كاتب شقي.
ثم جادة: - انقلها من خيالك وانشرها علها تكون فاتحة خير عليك ككاتب في بداياته الإبداعية.
زمجرت في نفسي واستدرت قاصدا الباب لألحق بأبي، بعد أن ودعتها وقلت لها : - لست بكاتب، ولن أصير كذلك إن كانت بدايتي ستكون بقصة حزينة كهذه!
وأنا في طريقي إلى الأسفل سمعتها تقول: - المهم اكتب، اكتب وسأظل معك حتى تحقق حلمي بأن أراك كاتبا وأكثر، فإني أحب طريقتك في سرد الأحداث شفاها، وكم أتمنى أن أقرأ لك أعمالا إبداعية في المستقبل.
وفي عتاب أردفت قائلة: - إنه حلم فقط، تخاف من المستقبل كما يخاف غزال وسط غابة من أسد لم يأته بعد، ويظل يرقبه طيلة مكوثه بين غدائه،- وما أدراه ألا يحوم به أي خطر- تخاف المستقبل ولو لم تعرف ما يخبئه لك، إنك فعلا لا تعرف ذلك.. قد يخبئ لك سعادة وقد يخبئ لك تعاسة، عش حياتك كما يجب أن تعيشها يا بني، وتعامل مع المواقف بسعادة واطمئنان؛ حلوها ومرها.. فإن في الحلو سعادة وفي المر سعادة من نوع آخر..
بعد عبارتها الأخيرة أحسست بضرورة الرد، تأكدت أن أبي لا زال بعيدا عني واستدرت نحوها معلقا:
- الله وحده يعلم كيف ستكون ردة فعله بعدما يراني قادما متأخرا هذا الوقت كله، وهو الذي لا يريدني أن أنام حتى الآن، كيف لي أن أواجه زجره ونهره بسعادة كما تقولين؟ وأن أكلمه أو أرفع عيني في اتجاهه وهو الذي يحسبني أتحداه إن بدا مني تصرفا كهذا؟
وقفت المسكينة متأملة إياي، ثم لحقتني وعانقتني عناق مستسلم عارف بالمصير، وقالت:
- لا عليك. عتاب خفيف يعقبه صفح جميل.
وضحكنا معا وعبرنا السلالم..
Post A Comment: