القاص والكاتب الصحافي الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "كاشف الارقام" 


القاص والكاتب الصحافي الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "كاشف الارقام"


 

كاشف الارقام   

 

تثبيت خيار كشف رقم المتصل، الأمر لم يفكر أو يهتم به قبل تلك الليلة التي أشرقت ظلمتها على سريره برنين هاته المحمول فيما بعد منتصف الليل، لأنه ساعتها، محا العالم كله من الوجود أو من وجوده هو على الأقل، فكان أكثر قناعة بأنه رقمها مستتر في شاشة هاتفه المتواضع، كان يحب هذا الأسلوب في النساء، التستر والتمنع والاختفاء، يحب أن يراهن من خلف نظاراتهن السود، وهن يسرقن النظر إليه، أو كما كان يقنع به نفسه، أن يراهن من سرقات النظرات في الحافلات، ويتمنى لو كان قادرا على الولوج والغوص في أعماق دواخلهن ليتأكد من أنه محل اهتممهن لكان فعل.. فتح الخط

- ألو نعم.. من معي على الخط؟

لم يصله صوت، لكن شيئا مثله أو ألذ وصله، وتمنى أن يبيت معه الليلة، لم يكن فراغا قط، بل صخب وأدب وسيل عذب من كلام صامت يحرق كل طبقات الظلمة الباردة الآسرة التي كان غارقا فيها بجوف مكعب خرفته الفارغة إلا من أصداء هامشية، اكتفى بمعاودة هادئة لطلب معرفة هوية المتصل برقم مخفي فيما بعد منتصف الليل، وهو لا يريد حقا أن ينكشف الرقم ولا صاحبه، فالمتعة كانت في أن يظل الوضع كما هو!

ليس لأنه كان يخشى ألا تقبل اعتذاره، لإطفائه هاتفه طيلة اليومين الماضيين، واخلافه بالتالي لموعد لقائهما قرب محل بيع المجوهرات لتضع خيارها الأول على الخاتم ويدفع عربونه للصائغ، كما اتفق من قبل، فيخبرها بأنه لم يخلف وعده وموعده عن عمد وإنما لسبب آخر سيفصح لها به إذ يلتقيان.

ليس يليق في لحظة زهو السمع المظلم المفعم باللذة أن يفتح لها دفتر متاعبه، أن يكشف لها عن أرقام فواتيره وأرقم دنانيره القليلة التي تقرع في أخر هذا الشهر في سحيق جيوبه العميقة، فهي لا تقرأ مؤشرات أسواق النفط أو المال، وتهتم لنشرة الطقس وحركة الريح والامطار لتضبط موعدها مع الحلاقة، يريد أن يستمر في تلك المقاومة العنيدة التي أعلنها في مقهى شعبي بالحي الكبير على فكرة أن الحب للأغنياء أما الفقراء فنصيبهم منه هو في أوهام السينما وطيات الكتب..

"ألا تدرك هاته الحمقاء أنني لست كهؤلاء الذين يسكنون في أفلام هواتفهم وهوائياتهم المقعرة كأسلافهم الذين تعلموا القبلات والعناقات من السينما الشقراء، وأني بذلك صادق الحب وجاد الود، والمفترض أن تثق بي وتشد الوثاق معي، لا أن تتمنع مغاضبة بصورتها وصوتها عني في سواد وحدتي بغرفتي الباردة"

هكذا راح يقنع نفسه وصوتها محتبس في سماعته، يشعل فيه نشوة عارمة من ذلك السكون والسكوت اللذيذين، يريد أن يقول لها "أنا أيضا مثل هؤلاء في الأفلام أعرف كيف أقبل المرأة على الطريقة الفرنسية وأحضنها بحنو وحرارة على الطريقة الدنماركية، وقد انتحر لخيانتها على الطريقة المكسيكية، وإني لقادر على أن أرويها من فيض ذكورتي المقموعة الممنوعة من قرون، أن أجثم على حوض أنوثتك وأرتوي حتى الثمالة، أن استعرض معك الشواطئ الحارة حيث الأجساد كأسواق الألبسة المستعملة بألوانها، أو أن نرخي بقدمينا على الماء بحافة المسابح الرخامية وبساط صحنها السماوي المتراقص مع قرص الشمس الكامن كالجنين في كبده".

ولم يرد حقا أن ينكشف له رقمها ويسمع صوتها لأنه شعر بشيء من الحاجة للعب الصبا حيث الاختفاء والاختباء في لعبة "الغُمّيْضَة" كان ألذ المتع، والمتاعب الجميلة البريئة، كان أطفال الحي يتخافوا عن أحد متطوع منهم، فيستمتع هو بشقاء البحث عن أمكنة اختفائهم فيكشف عنهم، ويستمتعوا هم بقلق البحث والتحري الجاري عنهم، قبل أن يدوي صراخ نصر الكشف منه وخيبة الانكشاف منهم، تذكر ذات مرة اللعبة تلك مع جار طفولته بقصابته التي فتحها بالحي الجديد الذي انتقل إليه من عشر سنين، وهو يشتري منه بالدفع المؤجل رطل لحم لحساء والده المريض، يومها قال له الجزار، بعدما سجل، ثمن اللحمة على دفتره، ورقمه بقائمة أرقمه بهاتفه الحديث ذي الشاشة الواسعة والخيارات العديدة، ما رسخ في ذاكرته:

- حين انتهت تلك اللعب يا صديقي انتهى الانسان فينا!

حرك رأسه بالموافقة والتأكيد دون أن ينبس ببنت شفا لم يدري سببه أكان من حسرة على جميل انقضى أو عَبرة من خيبة تستمر..

راق له كثيرا أن يبيت الليلة هكذا على صمت شهي وأجل التفكير فيما سيقوله لها غدا عندما سيباغتها بالكمين الذي سينصبه لها كالعادة بالقرب من الجسر الثالث الذي يربط ضفتي المدينة فوق الوادي الجاف، وهي تعبره ماضية إلى مقر شغلها، وما إذا كان سيصف لها سعادته بذلك الصمت الخالي حتى من النفس البشري الجميل الذي يكد ويجتهد في كل لقاءتها لسماعه يصدر عن صدرها، طبعا لن يدعها تفنِّد أو أن تضطر إلى أن تأثم وتقسم أنها لم تكن هي المتصل، سيخبرها أنه كان سعيدا بذلك الاتصال ولو لم يصحبه كلام، لأنه فك عنه طوقا طوعيا بسبب عدم قدرته على الخروج إلى الأسواق والمرور على أرصفة الدكاكين الزجاجية، وأنه لا ينام في الليالي والنهار قد انتحر في أجندة يومياته.   

ألو.. ألو..

سقط الهاتف من يده، تمدد على فراشه مزهوا منتشيا، فكر وتدبر الامر جيدا فقرر أن يعود غدا إلى يومياته العادية ويقترض مجددا من زميله رئيس تحرير الجريدة ما يشتري لها به قنينة عطرها المفضل التي كان يتمنى لو وسعه استنشاقها مع صمت مكاملة الليلة..

في الطريق إلى باب الجسر صباحا، حضنه فجأة رمضان الذي رمقه على الرصيف من وسط الناس لقامته الفارعة، فتح هاتفه من غير كلام وفتش في لوحة تاريخ اتصالات الأمس، ثم أشهر الشاشة الواسعة بأرقام كبيرة في وجهه سائلا إياه:

- أهذا رقمك؟

- بلى هو..

- شككت في ذلك

- رغم أني أعطيتك إياه منذ ثلاثة أشهر تقريبا، حين اقترضت منك رطل لحم!

- ومن يومها لم يظهر عنك خبر يا رجل، وأنا نسيت أن أكتب اسمك، فاضطررت ليلة أمس أن أتصال بهذا الخط مخفيا رقمي حتى لا أزعج صاحبه مخافة ألا تكون أنت صاحبه!  

بشير عمري

قاص  جزائري

Share To: