الكاتب والقاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "تلويحة وداع" 


الكاتب والقاص السوداني / محمد عبد المجيد جمال يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "تلويحة وداع"



(ياواقفة بين جرح السحاب بين شهقة الأرض البكر ما كان ده ريد)

جلس محتشداً بالذكريات وهو يعقد ساعديه على قوائمه المتقرفصة ، هكذا كانت الذبذبات تُنقل عبر سماعة الهاتف لقوقعة أذنه الداخلية ، كان محنطاً للحظة كجسد فرعون تسربت الروح من خلال أطرافه المُتيبّسة .. 

هكذا كان يتسامي وهو يتخذ موضعه عند شفة النهر الخالد عندما يتخضب الأفق بلون الأصيل ، يتفحص صفحة الماء بعينين واسعتين ، يُشنف السمع للنيل كمن ينتظر إعلان نبأ مهم .. 


نحن الآن في خواتيم تموز ، أو مطلع آب على وجه الدقة والتحديد ، هذا هو النيل يعربد بالطميّ ، يستحيل صفحته للبني الداكن ، تبدو أن السماء ندفت حمولتها بغزارة هناك في الجنوب الإستوائي المطير .. 

جاست الأفكار في مساربه وإندفعت تترى كمدفع قذفت حممه في تدافع مستمر .. 

هذا اللون الداكن لا تُخطِئه بؤبؤتاه ، لطالما كان يُلقِي على مسمع حبيبته أنكِ بنت النيل إستلفتِ اللون من النهر الخالد عندما يقضم (هدّامه) ذاكرة الجروف الدكناء وإكتسبتِ الهوية من ملامح هذا الوطن التعددي الأجناس .. 


كانت حبيبته تضحك ملء شدقيها والوقت ، تلتمع عيناها بالدهشة وتُخايل الأحلام مخيلتها الوامضة في المستقبل الآتي ، بعربية ذات لكنة مميزة غير مموعنة في قوالب التأنيث والتذكير ولا قواعد الصرف تخاطبه (لمن نعرس البت اليجي حنسميهو فيفان صح زي م إتفقنا ؟ ) .. 

يهز رأسه في إتجاهات عمودية صعوداً ونزولاً ، يوافقها الرأي ويردف مسترسلاً (أكيد فيفان الحتكون زي أمها كدا ) ... 


كانت أم فيفان المنتظرة شهلاء العينين ينطوي على بؤبؤيها كل سواد العالم ،

في سمرة ملتمعة أو قل في لون حنطي كحبات قهوة محمصّة على نار هادئة ، هيفاء القوام في طول عيدان ذرة ناضجة في مروج طليقة ، يرتاح رأسها على جِيد مشرئب من منبت العنق حتى موضع نهاية الأوداج المنتفخة بالدم الإستوائي الحار ، ترتسم خطوط طولية في جبهة تبرز قليلاً على نحو متعرج ، عندما تبتسم تفتر شدقاها عن أسنان ثلجية بيضاء أو في لون ياسمينة تفتقت للربيع ، وعندما تمشي ترتجّ تضاريس إستوائية في تخوم قفصها الصدري في مشهد برتقالتين ناضجتين تلاعبها الريح في غصن لعوب .. 

تتدلى من فروة رأسها جدائل مسترسلة كجريد النخل هناك في الشمال ، الشمال الذي وقر في قلب الرجل المتقرفص قبالة النيل الخالد هنا والذي إحتضن صرخة ميلاده الأولى ، وسمرائه ذات الجدائل المنسدلة من المدن البعيدة هناك ، المدن التي تتعطّن برائحة المانجو والأناناس ، المدن التي تحتفي بالنيل عند بدايه صحوه من سرير الإستوائية الوثير ، هناك حيث النيل يعمد في سلحفائيته بين القنوات ، يتلوى بين الأعشاب التي تعترض طريقه متوسلةً البقاء ، يجاذبها النيل السوسنات في تروٍ مطلق ، قبيل أزوف ساعات الترحال نحو الشمال البعيد .. 


قبيل أحد عشر عاماً او أكثر كان النيل بعد أن يتعانق بصنوه النيل عند المقرن ، ينقل أخبار المدن البعيدة ، المدن المتعبقة برائحة المانجو والأناناس ، كان أخوال فيفان يمهرون أسفل الرسائل بإسم (ملوال ، دينق ، جون) يهدونها النيل لتُناقلها بعيداً هناك حيث الشمال القصيّ (لعناية محمد صالح ، ساتي ، ومحمد أحمد) يخبرونهم عن مواسم تفرهد المانجو ، عن السماء المُثقلة بالمطر ، عن طبق البفرة ، عن عدد الأبقار المُعتلفة للعشب كعداد آخر مهر في المدينة .. هكذا كان النيل ساعي بريد تُزجى عبره الأشواق والرسائل المُضمخة بالحب .. 


لكن مابال هذا النيل الذي يتراءى أمامه قد عدل عن فكرة تناقل الأخبار ، لماذا (إنفصلت) أم فيفان المنتظرة عن دائرة محيطه ، أين أخفوا حبيبته الإستوائية ، لماذا إرتحلت سراعاً هكذا كقافلة بدوية كانت تضرب خيامها في قلب الصحراء ، 

أيها النيل أسبغ القفار التي خلفها إرتحال أم فيفان بالإخضرار ، أيها النيل رفقاً بحال مُحب زجّ ذاته في زنزانة جنوبية إستوائية ، أيها النهر السرمدي أنسج حبال الوصال من جديد ، من أجل روحينا المُنهكَة (بالإنفصال) .. 


هكذا كان يناجي سريرته قبل أن يفكّ تشابك ساعديه الملتفة على قوائمه المتقرفصة ، وبعدها أهدى النهر تلويحة الوداع المعتادة 

ومضى وهو يزدرد خيبته ويردد (ياواقفة بين جرح السحاب بين شهقة الأرض البكر ما كان ده ريد ) 

.

.

.




Share To: