الكاتب الصحافي والقاص الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "المهـــــراس" 


الكاتب الصحافي والقاص الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "المهـــــراس"





لم أدر ساعتها هل سآخذ بدوري الكلمة أم اتنازل عنها لغيري، فأنا عادة لا أحضر الاجتماعات التي أدعى إليها فجأة، وإذا ما حضرتها، أؤثر الاستماع على الكلام، لكن أن يجتمع ومن غير رخصة ساكنة جدد لعمارة حديثة لا يعرفون بعضهم البعض، لبحث مشكل المهراس الذي يستعمل في غير أوقات ملائمة ودونما إعارة أدنى اهتمام لظروف الجيران، هذه سابقة لم أتوقع مصادفتها مذ صرت شابا يؤثر السكن لوحده.

تمنعت عن التزاحم والتدافع لتناول الكلمة، اكتفيت بارتشاف ذلك الشاي اللذيذ العابق بالنعناع الأخضر وعطره النفاث في بيت رئيس جمعية ساكنة العمارة، حتى تناول الكلمة صاحب البيت بالطابق العلوي، كان شابا وسيما، بتسريحة شعر بديعة يرتدي لباسا كلاسيكيا مكويا من أوله إلى أخره كأنه كان سيحاضر بقاعة جامعية أو يغني بأوبيرا:

- تخيلوا معي أنه من هول سوء تعاملها حتى ذلك النباح الرخيم الذي كان يأتينا بالليل من حظيرة سيارتنا أسفل العمارة انقطع من فزع القرع على مهراسها اللعين، ألا ترون بأنها تستحق شكوى ليس فقط للمسئولين المحليين بل إلى وزارة الداخلية!

ثم تلته بالكلام احدى الحاضرات:

- الزهور التي غرستها في الأوعية الموضوعة على شرفة بيتي، فزعت من القرع ورفضت أن تتفتق رغم حلول موسم اطلالها على العالم، هذه جريمة، وتستحق شكوى إلى وزارة البيئة!

وكم فرحت وأن أرى خط تناول الكلمة قد تجاوزني حين قفز من أقصى صالة الضيوف أحدهم ليدلي بدلوه، لم استمع إليه وقتها، فقد كنت في سؤال تفسي حول ماذا كنت سأشكو قرع المهراس بالليل والنهار ولأي من الوزارات سأشكو صاحبته وأنا أدرك بأن الوزراء لا يسمعون المهاريس ولا أصوات الناس الذين بقرب مبانيهم فكيف سيسمعون شكوتي وأنا البعيد عنهم بألف كيلومتر في أعماق الصحراء الجزائرية!

طبعا لم أكن لأنحط في أدبي وأقول للمجتمعين في بيت ساكنة العمارة وهو يبحثون سبل وضع حد لسوء التصرف المعاملة من تلك الجارة التي تقرع مهراسها يوميا بالليل والنهار، فأروي لهم ما قاله لي أحد شيوخ حيينا القديم:

- ثمة نسوة يلجأن للمهراس لإغراء ممن يرغبن من رجال الجيران!

- الاغراء بالمهراس !!!

- طبعا وضعية الجلوس على الارض أثناء الضرب وموضع المهراس يثير عن بُعد الرجال وبعضهم يعتبره جرس دعوة إلى..

تساءلت كيف سأغدو وسط هؤلاء الجيران، خاصة إذا ما سألوني ماذا اشتغل وأخبرتهم بأنني صحفيا!

فبالتأكيد كان سيسخر مني أحدهم ويطلب مني أن أشكوها لوزارة الأوقاف والشؤون الدينية للمس بالأخلاق العامة!

ولكم سررت عندما تدخل ذلك الشيخ ذي الرأس المشتعل بالشيب، واللسان الهادئ المؤدب، ليس لأنه أخبر الجميع بمبادرته للمرأة ولكن دون جدوى، بل لأنه جنبني الرواية التي كنت سألقيها عليهم وأقول لهم بأن صديقتي الأوكرانية عي الأخرى متذمرة من مشكل القرع المزعج المتأت من الضرب العشوائي على المهراس بالبيت الذي بالطابق يعلو بيتي بالعمارة، لا أدري لماذا كنت مترددا، هل خوفا من العلاقة بالشقراء الأكرانية والحديث معها في هدأة الليل عبر النت؟ أم من ردة فعلهم مما سأرويه لهم بشأن دهشتها من الموقف أول مرة يوم قالت لي منزعجة وقرع المهراس يشوش سمعها:

- ما هذا الدوي القوي الذي ينبعث من بيتك؟ كأنكم أنتم في الجزائر في حالة حرب ولسنا نحن بأوكرانيا !!

- هذا مهراس جارتنا

- مهراس؟؟

- نعم..

- هل حقا لا زلتم تستعملون المهاريس بدلا من الطواحين الكهربائية؟

فسكت !!

المهم أن الشيخ الأشيب الوقور قال:

- منذ يومين طرقت بابها وأهديتها طاحونة أتوماتيكية.

اندهش الجميع وتساءل أحدهم:

- ولماذا يا ترى لا تستعملها، وتصر على ازعاج حماتي المسنة المريضة، فالشكوى التي تستحقها إذن هي لوزارة الصحة وإصلاح المستشفيات؟

عاد الشيخ ليتكلم:

- لا وتخيلوا معي أنها لم تكلف لسانها عناء شكري على الهدية، استلمتها وأغلقت الباب في وجهي.

تدخلُ الشيخ والمعطيات الجديدة التي أتى بها كلمه زاد من التوتر في الاجتماع، حتى عادت المرأة الوحيدة وسط الحضور لتخلص إلى أن صاحبة المهراس ساحرة وتاجرة في مسحوق عظام الموتى، التي تعجز صلابها الطواحين الأتوماتيكية:

- رأيتها هذا الصباح تشتري الجرائد، لتقطعها قطعا قطع وتستعملها أوعية تملأها بمواد سحرها لزبائنها أنا متأكدة من ذلك صدقوني وعليكم أن تصدقوني!

طبعا قدرت أنه لا طائل من سؤالها لمَ علينا أن نصدقها، لأني أعرف أنها ستقول ببساطة لأني امرأة وهذا من كيد النساء، ومؤكد أني لن أروي هذا لصديقتي الأوكرانية!

رسمت بسمة ساخرة بدخيلتي، ولم أسألها إلى أي وزارة قد تشكوها لو أمكن ذلك؟؟

لكن حكاية أن امرأة تضرب على المهراس في 2022 لكسر عظام الموتى لاستعمالها في السحر لم أتجرعها وحاولت أن أقنع نفسي بأن المرأة تقرأ الصحافة، ولا علاقى لها بعظام الموتى، استهوتني الفكرة حتى أنني قلت في نفسي ربما كانت تقرأ صحيفة "التحرِّي" التي أشتغل فيها مذ تخرجت، وإذا ما حصل ذلك فعلا، فالأمر بات سهلا، سأكتب مقالا حول هذا الازعاج وأكفي جميع هؤلاء المجتمعين اللحظة شر المزيد من الاجتماعات، وأكفي كل تلك الوزرات عناء شكواهم من المهراس، علي فقط أن أعرف الصفحة التي تقرأ هاته القارعة وإذا تعذر علي ذلك ولزم الأمر، سأطلب من رئيس التحرير أن ينشر المقال على صدر الصفحة الأولى والعنوان بالبنط العريض..

وعلى أمل أن نعود لنجتمع اليوم مجددا ببيت أحدنا بالعامرة بعد أن فشلنا في إيجاد صيغة للتعامل مع معضلة تلك الضاربة على المهراس في الليل والنهار، كانت شمس في الصباح قد امتزجت مذ اشرقت مع شقرة وجهها ومقدمة رأسها حيث شعرها الذهبي يتدلى بخصلاته على جبهتها العريضة المحمرة، ذكرتني بصديقتي الأوكرانية، فزادت قناعتي أنها تقرأ، فتشجعت واستكملت ملاحقتي لها وتعقبها انتظر أن تفتح الجريدة، لأعرف على أية صفحة تحديدا!

كانت سعادتي غامرة وهي تستلم نسخة من الصحفية حيث اشتغل، طوتها ومضت لا تلوي على شيء بين شوارع وسط المدينة وأنا خلفها كالمخبر أتقفى أثرها، وأتألم لعدم استفادتي من غيابها عن البيت لأحدث صديقتي الأوكرانية من غير قرع على المهراس، وأحسد الجيران على هدوء اللحظة!

صحيح أني تمنيت في الأخير ألا يكون ذلك هو مقصدها، لكني صدمتي كانت أكبر حين دخلت في أعقابها مباشرة إلى مكتب صديقي الطبيب النفساني الذي صعقني بإجابته عن سؤالي له:

- لا نحن حقا في مرحلة متقدمة من العلاج، والمرأة تدنو من الشفاء ولم يبقى سوى التخلص من هوس ضربها للجريدة وطحنها على المهراس مذ رفضت الصحف نشر قرائن براءة زوجها الصيرفي المسجون بتهمة سرقة المال العام.

كتمت فزعي وخلتني في جوف المهراس، يتنزل علي مدقه الثقيل والدم يتطاير مني وعظامي تتكسر وصراخي يكاد يعدو جوف المهراس. فقمت من موضعي بالعيادة وطبعا رأيت من السخيف سؤال الطيب:

- هل تسحق عظام الموتى بشكل أرحم وأسهل في الطاحونة الأتوماتيكية أم بالمهراس!

كما أني لم أجده مفيدا أن أسأله:

- وهل تقرأ المرأة الصحف؟

بشير عمري

قاص جزائري

Share To: