الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب مقالًا تحت عنوان "الحركة السياسية والتغير الحضاري" 


الكاتب السوداني : أحمد سليمان أبكر يكتب مقالًا تحت عنوان "الحركة السياسية والتغير الحضاري"


***


المبادئ السياسية ليست أفكارًا تجريدية، ولا شعارات خالية من المحتوى،وإنما هي منهج،وإلتزام،وأسلوب حياة.فمبادئ السياسية التي لا تخرج عن إطار الجدلية العقيمة لا تغدو أن تكون ضربًا من التهريج،أو في أحسن الفروض لونًا من ألوان الترف الفكري الذي يمارسه المثقفون وأشباهم.

فالشعارات السياسية التي لا تخرج عن إطار التجريدات ولا تمس حياة الشعوب وواقعها المعاش،ولا تقوم على المجابهة الصريحة والحوار الواعي، ولا تنعكس أخلاقياتها في تصرفات القيادة ومسلكها العام والخاص،بل وتخلق لدي الشعوب تطلعات نحو أهداف عصية التحقيق،مثل هذه الشعارات تنتهي دومًا بإعراض الناس عن المبادئ نفسها،واستجابتهم لمنطق ردود الفعل وما يصحبها من تخاذل وخذلان  وهذا الأسلوب في العمل السياسي يفتقد أهم ما يجب أن تتميز به القيادة السياسية ألا وهو المسئولية، فالمسئولية، هي الحد الوحيد للحرية السياسية والممارسة السياسية.

فالإلتزام بالمسئولية إلتزام أخلاقي،وواقع الأمر أن أكبر الأزمات التي 

تعانيها شعوب العالم النامية هي أن أقل عناصرها إدراكًا لمستلزمات المسئولية الوطنية هي الصفوة،والإلتزام هنا ليس إلتزامًا سياسيًا أو تنظيميًا فحسب وإنما هو بالمقام الأول إلتزام أخلاقي، بيد أن موقف عدم الإلتزام هذا إنما هو نتيجة حتمية للوضع الذي وجدت الصفوة فيه، فهي حاملة لواء التحرر الوطني، وناشرة العدالة الاجتماعية والممارسة الديمقراطية،إلا أنها في نفس الوقت الوريث المباشر والوحيد للحكم الأجنبي وإمتيازاته،ذلك الحكم الاستعماري الذي عانت منه تلك الشعوب مر السنين،وفي الغالب الأعم لإمتيازات دون مسئولية،لذا فإن لم تسطع الصفوة كبح جماحها بالحساب، ستنتهي بالضرورة إلى الإنحراف عن الجادة.والإنحراف ظاهرة طبيعية ملازمة للإنسان ما دام هلوعًا بطبعه، يعشق المتعة، ويحب الدعة، ويحفل من البذل باستثناء أصحاب العزم. وينتج من هذه الظاهرة السلبية الحرص على الإبقاء على كل الإمتيازات الموروثة،مع الإغفال التام للريف وتركيز كل مظاهر التطور والتجديد في مراكز التجمعات الحضرية، بالرغم من أن الريف هو المستودع الدائم للقيم التقليدية التي قد يقف كثير من تصوراتها وممارساتها عقبةً كؤودًا في وجه التطور الذي يقوده المجتمع القومي.وهنا تظهر ظاهرة الانفصام الضار بين أهل المدن وأهل الريف، وظاهرة الانفصام هذه ظاهرة قديمة، منذ أن برزت المدينة في كيان الدولة الحديثة النامية، وقد ظلت المدن في الدولة الحديثة النامية تتطور بصورة أخذت معها تبدو كبثور غريبة طارئة في جسم الشعب، بحكم نفوذها الاقتصادي، ووضعها السياسي وإمكاناتها الثقافية،فرضت المدينة نفسها على بقية أجزاء الدولة فرضا، وهو فرض لم تصحبه المحاولات العلمية الجادة لإحداث التغير الحضاري الضروري الذي يجعل من المجتمع القومي كله وحدة فكرية واقتصادية، ويجب أن لا يختلف اثنان في أن الهدف الرئيسي لأي حكومة أو نظام نظام أو أي خطة سياسية هو تحقيق الوحدة الوطنية والتنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذان الهدفان لا يمكن تحقيقهما في أي وضع يغفل المجتمع الريفي فلا وحدة وطنية بلا ريف، ولا تنمية بلا ريف.

فالمشكلات التي تعاني منها المجتمعات المتخلفة، مكانها في الريف وموضوعها الإنسان الريفي،وغاية التنمية هي تحويل الريف إلى مراكز إنتاجية حديثة، وتحول الإنسان الريفي إلى انسان قومي ينفعل بالأحداث التي تدور في المجتمع القومي، ويتحرك معها ويسهم فيها بحيث تتفق في الوحدة القانونية والسياسية للوطن أو المجتمع القومي وحدة اجتماعية،واقتصادية، وفكرية، ويتم التفاعل بين الـــريف والمــدينة فــلا تظـــل المــدينة خــزينة طامعة،وسلطة 

باطشة والريف مزرعة قانعة، وضريبة متصلة وذلًا مقيما.  

ختامًا إن القيادات الرشيدة هي القيادات التي تدرك أن التغير الحضاري لا يتم إلا بالانتقال بالحركة السياسية إلى مراكز التخلف ومحاربة إنحراف الصفوة.فالزعامة السياسية الحقيقية تدرك أن قيادة أي مجتمع نحو الخير لا بد أن تكون قيادة أخلافية، وأن المجتمع الطاهر لا يمكن أن يقوم ما لم تتطهر القيادة، وأن العامة لن تصلح ما لم تصلح الصفوة وأن البذل والتضحية يصبحان عنتًا واقتسارًا ما لم يفرضا على القادرين قبل جمهرة الكادحين.

***





Share To: