الكاتب الجزائري / ميموني علي يكتب : قطرات من حبر الذكريات..


الكاتب الجزائري / ميموني علي يكتب : قطرات من حبر الذكريات..


    في إحدَى صباحات سنة 2008 المُغلفة بِلون الشمسِ الذهبي مُزينةً زرقَة سماءِها ببياضِ الغُيوم الناصِع اسْتيقظتُ كطفلٍ بليد لا يُدرك في الأصلِ ما الذي يَدفعه للإِستِيقاظ مبكرًا من أجل الدراسة؟!

   في ذلك السن لم أكن أحمل في جُعبة مخيلتي سوى حب اللهوْ وغرامي بالمدعوة (ش.ك) التي حدثتكم سابقًا عنها ولربما سَأفصل أكثر في وقتٍ ما.

    إنّ اللّه عز وجل لا يخلقُ فينَا الصفات عن عبث، لكن قدراتنا العقلية في صغرنا لا تُتِيحُ لنا المجال لنفهم أسباب خلقه لها فينَا.

   أغسل وجهي بسُرعة أرتدي ملابسي ومحفظتي البالية، إنها تذكرني بالأكياس الورقية لضُعفها وعن نفسي لم أكن أجيد الحفاظ على شيء سوى كتابِ القراءة ذلك لأن المحبوبة بين الفينة والأخرى تستعيره مني فحظي بإهتمامي الشديد، أو لربما هي روح الكاتِب وحُبها للكتب دفعتني لذلك اللّه أعلم.           

   كلُ الأيام المميزة في حياةِ الطفل تمنحه نوعًا خاصًا من السعادة، كنتُ أنشِد بسعادةٍ أنشودة يحضر لها زملائي من أجل حفل نهاية السنة الدراسية، فسمعني المعلم أردد (لبيك يا كتابي لبيك يا كتابي يا أجمل الأصحابِ تزدان بالرسُوم من سائر العلوم، أدواتي، أدواتي، أدواتي المدرسية، هي عُوني في حياتِي...) فشاءتِ الأقدار أن محبوبتي مرِضت، أظنكُم إكْتشَفتُم سببَ حفظي لهذا المقطع بالذات لأن ش.ك كانت ستؤديه، لم يتردد المعلم أبدًا في إختيار البديِل لأنه قد سَمعه يرددُ المقطع بسعادة، فكنت أنا ذلك الشخص، إنزعج الكثير من الرفاق لأن صوتِي خشن جدًا ولم يرق لمسامعهم، فكنت النشاجز بالنسبة للفرقة الإنشادية، إلا أن مُعلِمي كان مستمتعًا جدًا بسماعه لصوتي وطريقة أدائي، لربما أحسَ بمكانة هذه الكلمات بالنسبة لي.

   أحبَ الرفاق صوت هذه دون صوتي ولكنهم لم يمتلكواْ الجرأة ليعارضواْ قرار المعلم أو حتى ليطلبواْ التغيير لأنهم يعلمون تمامًا ما سيقوله.  في يوم الحفل بالضبط حيث كُنت جد أنيق مبهرج بألوان ملابسي الفاقِعة، مرسومة تلك السعادة على ملامحي كأنها إحدى لوحات دافينشي.

    ولأن معلمنا حفظه اللّه كان دائمًا يدفعنا للمشاركة في النشاطات المسرحية والإنشادية لم نمتلك أبدًا التردد

 أو الخوف من الجمهور مهما كان عدده كبيرًا.

فلم يكن هذا الجانب يقلقنا أو يشغل تفكيرنا بينما كل ما شغل  الرفاق صوت (علي ميموني) الخشن النشاجز.

حصل أمرٌ طارئ للمعلم ما دفعه لمغادرة الحفل قبل بدايته، ففتحت أبواب القدر للرفاق ليتخلصواْ من صاحب أسوء صوت بالنسبة لهم، وبما أن الأخيرة. ( ه ) كانت حاضرة وحافظة لكلماتها فقد تم التغيير مباشرة، لكن إن للحياة دائمًا أراء مغايرة فهي لا تساير أراء الناس بل إنها تعطي كل ذي حق حقه، كان هنالك معلم آخر يشاهدنا أثناء التدريبات التي تسبق الحفل فرفض قرار تغييري وأعادني، عند إنطلاق الحفل بدأ زملاء من قسم آخر مسرحية بعدهم جاء دورنا، كنت أشعر أني بطل خاصة أن الكثير من الأصدقاء يشاهدون ففي هذه الفرقة ولد واحد فكان الدعم الذكوري كبيراً جداً فلطالما كانت تلك المنافسات كبيرة بيننا وبين الجنس اللطيف، من كل النواحي سواء أداء المسرحيات الأناشيد، حتى المشاركات داخل القسم والمعدلات. صفق الجمهور بحرارة لدخولنا.

وأنشدنا كأن أرواحنا تعتمد على ذلك، إنسجمنا رفقة بعض وقدمنا أفضل أداء يمكن لنا تقديمه، تفاعل الجمهور بحفاوة كبيرة مع إنشادنا سواء المقطع الجماعي أو الفردي فكان بعض الزملاء يرددون معنا والأباء يصفقون ويتضاحكون، 

يعيد لي هذا الكثير من الذكريات التي أتمنى حقًا ألا تذبل ورودها🌹 من ذاكرتي، أنهينا دورنا وحان وقت نزولنا عن الخشبة ليأتي الذي بعدنا، لكن كان للمعلم رأي آخر أوقفنا وصعد الخشبة ناداني فوقفنا بمقدمتها. 

طرح سؤالاً على الجمهور ما رأيكم في أداءه وصوته؟ يقصدني بكلامه، الكل صفق وأثنى عليّ، ثم قال كلمة جميلة جدًا لا تزال تجول في خلدي، إياكم أن تكونواْ شموعًا يسهل إطفاءها، كونوا شمسًا لا يختفي نورها من مكان إلا لتضيء مكان آخر ولا تترددوا أبدًا في الدفاع عن شغفكم فلوا خضع زميلكم لرأي رفاقه لما شاهدتم هذا الأداء المبهر ولربما سيطر عليه هذا الخوف مدى الحياة.

   صفق الجميع وحين نزلت، كنت جد سعيد رأسي شامخ، وزادت سعادتي أكثر حين رأيت ش.ك تبتسم فرحًا بأدائي فكما يبدوا قد حضرت وشاهدت العرض رفقة والدتها.

صادف بعد ذلك أن مدرستنا ستشارك في مسابقة للمسرح بين المدارس من كل القطر الجزائري وذلك في مدينة مستغانم.

إختار أستاذنا من سيمثلون فمن كل قسم اختار شخص أو شخصين، من قسمنا تم اختيار هذه المجموعة ( ر.ت ش.ك ع.م ع.ت) فكان دوري أنا وصديقي هذا ع.ت في المسرحية، خفاشين، أدوار ثانوية لها مشهدين تظهر فيه، المعلم المسؤول عن المسرحية كان قدوتنا وأبونا (بشير الروبي) 

كانت المسرحية تحتوي بضع مقاطع إنشادية فكنت كالعادة صاحب الصوت النشجاز، لهذا أمرني ألا أنشد بل أن أحرك شفاهي فقط لكن كلمات المعلم الآخر جالت بعقلي فلم أرضخ بل أنشدت، حتى فقد الأمل في نهيي لهذا استغل صوتي الخشن كإضافة ومنح الأناشيد لذة خاصة بها.

  حدث أن صاحبت الدور الرئيسي (ش.ك) محبوبة القلب إنسحبت لأن والدتها رفضت سفرها "لمستغانم" فتداخلت الأمور ببعض وبقي الجميع حائرًا، ونحن جالسون كان "ميموني" يدندن بصوته الخشن أنشودة المسرحية، بعد لحظات وضع الأستاذ النص بيدي وطلب مني قراءته، حين فعلت تحمس كثيرًا، قائلاً: مصائب قوم عند قوم فوائدُ، فكان صوتي الخشن أفضل تركيب لدور الأب الرئيسي في المسرحية، فتحولت من شخص يؤدي دور ثانوي، إلى بطلها.

قضينا قرابة الشهر والنصف من التحضيرات، لكني واجهت مشكلة أن خالتي رحمها اللّه رفضت هي الأخرى سفري، لكني لم أخبر المعلم حتى لا يغيرني، ولكن حصل أمر لم يكن في الحسبان إستمارة وجب أن يملأها ولي الأمر ويوقع عليها ويأخذها للبلدية ليتم المصادقة عليها.

  هنا حيث تمردت لأول مرة وقمت بعمل إجرامي فكما قال المعلم لا يجب أن تخضع أبدًا. كانت تملك المرحومة حقيبة ذات قفل (تلك الحقائب التي تحتوي قفل رقمي ما أن تضع الرقم تفتح)

فظللت أراقبها حتى عرفت كلمة السر، وأخترت وقت القيلولة، لأفتحها.

كانت في مكان عالي جدا، تَطلبَ مني الجهد لأصل، فتحتها وأخذت بطاقة التعريف الوطنية، حينها لم يكن خطي جيدا، فأستعنت بهذه. لأن خطها كان جميلاً جدًا ولا يدعو للشك أو الريبة فملأت الإستمارة، عندما وصلنا للتوقيع انسحبت فأستعنت بهذه. بعد أن أخبرتها عن خطتي فساعدتني ونسخته كأنه هو تمامًا، ثم ذهبت للبلدية، رفض الرجل مصادقتها قائلاً: يجب أن تحضر صاحبة البطاقة، ولأني كنت قد جهزت عذري فأخبرته: يا عمي إنها مريضة ولا تستطيع المجيئ لهذا ملأت لي الإستمارة و وقعت عليها، وأكدت على التوقيع ليصدقني، ثم أردفت: ولم يبقى سوى يومين لأعضاء المسرحية ليسافرواْ، صدقني الأخير وصادق عليها.

كنت أطير من الفرح والسعادة، ثم إذ بالخطوة الجديدة.

تركت إلى أن تبقى يوم واحد للسفر (وحرصت في تلك الفترة أي قبل السفر، على إبهار المعلم ببراعتي وإتقاني للدور) أخبرته أن عائلتي ترفض رحيلي، فلم يجد حلاً سوى بالذهاب لمحادثتهم، ولأنه معلمنا وأبونا فالأهل يحترمونه بشدة ولا يرفضون له طلبًا، تمت الموافقة فذهبت بسرعة لتجهيز ملابسي. 

  يوم الرحلة تجاورت في المقعد مع صديق الطفولة والرفيق هذا و جاءت (ر.ت) هاربة من أهلها مختبئة في الباص لكن للأسف إكتشف أمرها والدها رحمه اللّه وأسكنه فسيح جناته، وأعادها للبيت فلم ندري أنا وصديقي هل نحزن لعدم مجيئ (ش.ك و ر.ت) أم نسعد لذهابنا نحن.

باشرت الحافلة الرحلة البرية من (عين أميناس إلى مستغانم) 

توقفنا كثيرًا وأستمتعنا خاصة في ورقلة حيث صحبنا "أبونا"

إلى حديقة الحيوانات رغم أنها كانت مغلقة و الحرارة مرتفعة جدًا لكنه بحنكته أقنع المعنيين، ففتحت لنا أبوابها، رأينا كل الحيوانات التي لطالما قرأنا عنها، كنت معجبًا جدا بالفنك حينها، ما جذبني طريقة نومه وهدوئه نظراته وشكل أذنيه.

ثم انطلقنا نحو ولاية غرداية، حسبما أتذكر المنطقة تبعد بعشرة كلم عن الولاية تسمى (أريان... الريان) الإسم مقارب لهذين. زرنا أحد أقارب "أبونا" المنطقة كانت جد رائعة الأزقة ضيقة، متعرجة وكثيرة. أما البيت الذي إستضافنا فما شاء اللّه كان جد كبير. كنا بين الفينة والأخرى ننزل لشراء المثلجات لأن المحلات كانت قريبة جدا..

حذرنا أحد المعلمين من الإبتعاد خشية الضياع نزلنا أربعة (علي وعلي وصديق يدعى نني الرابع أتذكر ملامح وجهه ولكني نسيت اسمه) بعد شراء المثلجات قرر الرفاق التوغل قليلاً الرابع رفض الفكرة وعاد أدراجه خوفًا من المعلم قال (نني....نيني) هل أنتم جبناء، كبرياء الرجل داخل أجسامنا الصغيرة رفض هذه الصفة فقررنا الذهاب، وحدث تمامًا ما خشيناه ضعنا وبدأ الرفيقين نيني وعلي التوجي كل شخص يختار مسار، ولكن لا جدوى مرعوبين نتخيل عقاب المعلم لنا أو ربما لن يجدونا أبدًا، خفنا كثيرًا.

    أمسكت بزمام الأمور وقررت أنا القيادة متتبعًا حدسي،

حين فقدت الأمل، رأيت رجل شرطة فأخبرتهم أن نذهب له قالوا إذا أخبرناهم سيكتشف المعلم أننا ضعنا وسيعاقبنا

فقلت العقاب أفضل من الضياع التام فلربما لا نعود أبدًا. 

فوافقا ذهبنا له فأخبرته: قصتنا، فقال: لا بأس أشار بإصبعه مردفًا: ذلك مركز الشرطة أدخلوا له وأخبروهم وسوف يعيدونكم لا تخافواْ، بمجرد أن رفعت عيني حتى رأيت السوق الذي أسفل البيت عرفته مباشرة فقفزت قائلاً: هناك البيت هناك أعلى السوق شكرا يا عمي وركضنا بسرعة له سعداء، مكررًا على مسامعهم أنا من أنقذكم قدتكم للطريق الصحيح وعرفت السوق بمجرد أن رأيته 🤣 إنها الطفولة البريئة. حدثنا الرابع عن مجريات الأحداث فحمد اللّه أنه لم يرافقنا.

    سافرنا بعدها بيوم إلى مستغانم، حين دخلناها أول ما استقبلنا هو غروب الشمس جهة البحر، حين توقفت الحافلة في المحطة البرية كان يبدواْ البحر الأبيض المتوسط كجدار سيقع على البنايات لإرتفاعه منظر رغم جماله أثار بي الخوف خاصة أنني أرى البحر لأول مرة في حياتي، أعتقد أن هذا المنظر هو الذي جعلني أعاني من "فوبيا الماء" ولكنني تخلصت منها الحمد للّه. أما علي التوجي فعبر بطريقة أخرى 

كان يرقص فرحًا لرؤية البحر وأحد المعلمين يقرع له 'الدربوكة'.

شاركنا بمسرحيتنا ولقيت ترحيبًا جميلاً من الجمهور، 

صعدنا للمدرجات لنشاهد الذين بعدنا، بمجرد أن جلست وضع رجل عجوز يده على كتفي قائلاً أحسنت يا ولدي كان أدائك رائعًا وصوتك وملامحك ملائمان تمامًا للدور .

بين 48 ولاية مشاركة حصلنا على المركز 22 في أول تجربة لنا على خشبة مسرح حقيقي، كنت أود أن أفصل ولكن سندعها لغير هذه المرة فهذا المقال كله مرتكز على الصوت الخشن ل علي ميموني.

اليوم بعد 14 سنة، إختلف الأمر كثيرًا فصوتي الذي لم يكن يعجب الكثيرين يحبه الجميع قائلين لديك خامة صوتية لمذيع، وهذا لكثير من التعليقات التي قرأتها لمتابعين لي في حسابي على (التيك توك ifri9i8)من خلال تلك الفيديوهات القصيرة التي أصورها.

أعلم يقينًا أني لم أصل بصوتي لمكان رفيع ولكن مديح الأستاذ "فؤاد شمص" أحد أبرز المعلقين الصوتيين في العالم العربي له وكثيرون غيره من المتخصصين في هذا المجال، دفعني لمحاولة تطويره أكثر لأصل إلى أبعد الحدود من خلال صوتي الخشن الذي لم يرقى لذوق الكثير من الأشخاص في مرحلة ما من حياتي. 

كونواْ مثل الشمس لا تغرب عن مكان إلا لتضيء غيره ✨


بقلم: ميموني علي



Share To: