الأديب السعودي / أ.محمد الحميدي يكتب مقالًا تحت عنوان "اصطفافات عراقية" 


الأديب السعودي / أ.محمد الحميدي يكتب مقالًا تحت عنوان "اصطفافات عراقية"



   لا يمكن لغير الولاءات؛ أن تُقيم دولاً، وتوقفها على قدميها، والشواهدُ التاريخية تُظهر أن الدول لا تقوم في بداياتها؛ إلا اعتماداً على ولاءات أتباعها، أو ما عبَّر عنه ابنُ خلدون "العصبية"، التي هي منشأ الولاء، وأصله، وإليه تعود، فلا فرق بين الولاء والعصبية الخلدونية.


   الولاءُ حركة تاريخية في ظهورها، لا تأتي فجأة، ولا تظهرُ بدون مسوِّغ؛ إذ لا بد من سبب قويٍّ، أو نازلة تحِل بالأفراد؛ لإظهار ولائهم؛ مثل انتشارِ الخوف من حرب قادمة، أو شعورٍ بالظلم والغبن، أو عدمِ حصولهم على حقوقهم، ومهما تعددَّت الأسباب؛ ثمة سبب رئيس يمكن إرجاع الولاءات إليه، يتمثَّل في "الخوف".


يعدُّ الخوف أهمَّ أسباب الولاءاتِ، وتفضيل الانضمام إلى الأحزاب، فالمشاعر الإنسانية تلعبُ في هذه المرحلة أهميَّة قُصوى؛ بسببِ اتصال الولاء بهُوية تحفرُ داخل الإنسان، وصولا إلى عواطفه وأحاسيسه الدفينة، التي ستظهر حالما يتم المساس بشيءٍ من مكونات هُويته؛ كالأرض، واللغة، والعائلة.


   مع اجتماع أكثرِ من سببٍ لفورانِ المشاعر وهياجها، تتعاظمُ درجة الولاء، فالإنسان حينما تُنهب أرضُه؛ سيستهدفُ استعادتها، فإن اجتمعَ النهبُ مع الاعتداءِ على رموزه، أو لغته، أو ديانته، أو نسائه، من الطبيعي أن تزداد درجة كراهيته للفاعل، ومع ازدياد الكراهية سيكون في حاجة إلى التنفيس عن مشاعره المكبوتة، والمتمثلة في خوفه؛ إذ كلُّ درجة من درجات الكراهيةِ، تترافق مع مرتبةٍ من مراتب الخوف، الذي حين يشتدُّ؛ تغدو الكراهيةُ في أقصى درجاتها، وبهذا يستعد المرءُ لمنح ولائه لأقرب "مُنقِذ".


   المنقِذون يظهرون في مجتمعات تعاني الظلم والتهميش، وتسعى للخروج من أزماتها المعيشية، فيأتون بآمالٍ عريضة؛ تتمثل في رفع المعاناةِ عن كاهل المجتمع، مع وعدٍ بتحقيق هذه الآمال والتطلعات، وبذلك يحصلون على ولاء الأفراد، الذين يسارعُون للتعلُّق بطوق النجاةِ الممدود، دون أن يميِّزوا الوعود الحقيقية من الزائفة، وعلى مرِّ التاريخ وُجدت شخصيات انتهازية، أعطَت وعوداً، لم تنفِّذ منها شيئًا.


   مع ظهور المنقذ، والتفافِ الأفراد حوله، يبدأ الولاء في التشكُّل؛ نتيجة وعوده التي تعمل كـ"مُخدِّر" للمشاعر والأحاسيس، فتُنسج الكثير من الروايات، وتظهر العديد من القصص، تشمل بطولاته، وشجاعته، وإقدامه، وتصديه للظلم، وردِّه عن الناس، وبهذا تكتمل "صورته الذهنية" في العقول.


الصورة الذهنية المرسومة للمنقذ؛ هي زاده الذي يجذبُ الولاءات، فلا يمكنُ لأيِّ أحد أن يتصدَّر المشهد، ويحوز ثقة الناس وولائهم؛ إلا إذا رُسمت له صورة مشرقة، شديدة الطهارة والنقاء، ترفعه إلى درجة القديسين.


   تتبع المجتمعات المنقذَ أينما اتَّجه، وكيفما تصرف، حيث يغدو المرآة الحقيقية بالنسبة للأفراد؛ ينظرون إلى أنفسهم من خلاله، ويقيسون تصرفاتهم إلى تصرفاته، فتزداد حوله الأخبار، ومعها تأتي الكثير من الزيادات والشائعات؛ الهادفة إلى إشباع الصورةِ الذهنية المرسومة، حتَّى يتم تقبُّلها، وعدمُ مساءلتها عن أفعالها وقراراتها.


   الولاءُ للفرد المنقذ يحملُ مخاطر كبيرة في داخله، فبوجوده يستمر الأمل ويكبر، وبرحيله تموت كل الأحلام، إذ يتعلَّق مصير الأفراد ببقائه، وحالما يموتُ؛ تنقسم ولاءاتهم وتتجه إلى أشخاصٍ قريبين منه، يُنظر إليهم باعتبارهم الامتداد الطبيعي لوجوده.


   "انقسامات الولاء" وتشعبها بدايةٌ لانهيار المسؤولية الملقاة على عاتق هؤلاء الأفراد، فحين لا يحصلون على ولاء كافٍ؛ يتقاتلون فيما بينهم للظفر به، والمنتصر من يتمَّ اتِّخاذه منقذاً جديداً، خلفاً للمنقذ السابق، ومع الدخول في مرحلة الصراع على الولاء؛ ستبدأ الصورة الذهنية المرسومة عن المنقِذ في الانحلال، إذ لكل إنسانٍ سلوكٌ لا يشبه الآخر، مما يجعل من الصَّعب الاتفاق حول شخصيَّة محددة، يختارها، ويُجمع عليها الناس.


   مع انهيار المسؤولية؛ تنهارُ "القيم" التي تحكمُ الناس، وتعمل على تسييرِ حياتهم، كما تختفي "القوانينُ" الموضوعة لترتيب شؤونهم، فتنتشر الفوضى، ويسود عدمُ الأمن، وتنخفضُ الأرزاق، ويختفي الأمل؛ ليحلَّ "الخوف" بديلاً عنه، وهكذا تبدأ عجلة التاريخ في الدوران؛ بحثاً عن منقِذٍ آخر، يكمل ما بدأه السابق.


المنقِذُ الجديد يظهر بعد فترة زمنية تسودها اضطراباتٌ وانقسامات، يعيشُ خلالها الناس في مشاعر خوف ورهبة، لا تزول إلا باستقرارِ الأوضاع، وإنشاءِ كيان، يُلغي السابق، ويتحمَّل مسؤولياته.


25 سبتمبر 2022




Share To: