الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..


الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..


فنان مبدع من طرازٍ خاص استطاع عبر بصمته الفريدة أن يصنع عوالماً متفردة ليس فقط بأسلوبها وخطوطها وألوانها وإنما بأثرها الذي تركته في قلوب الناس، والذي لا زال الكثيرون يشهدون بخصوصية ما قدمته من خبرات ومشاعر إنسانية متراكمة، صنعها المزج بين خلفيته الثقافية الأرمينية ونشأته كفلسطيني وحياته في لبنان كرجلٍ أحب الفن واختار أن يكون هو اللغة التي يخاطب بها العالم من خلال أعماله التي حملت توقيعه.. توقيع الفنان الكبير الراحل بول غيراغوسيان، والذي أكدها بكلماته قائلاً (حين كنت طفلاً كان الناس من حولي يتكلمون عدة لغات، كنت أتساءل من أنا؟ وبأي لغة ينبغي أن أعبّر عن نفسي، بالأرمنية أم بالعربية أم بالفرنسية؟ أخيراً أدركت أن لغتي الأم هي الفن، وأنه عليّ أن أتكلم بها وليس بسواها)..



ولد بول غيراغوسيان في القدس عام ١٩٢٥ لعائلة أرمينية فلسطينية، بدأت موهبته الفنية بالظهور بشكلٍ تدريجي في طفولته وبدأ رسم البورتريهات باكراً لدعم عائلته مادياً، وكنتيجةٍ طبيعية لهذه الموهبة حاول أهله صقلها وتهذيبها وتطويرها من خلال تسجيله في (استوديو ياركون للفنون) في يافا، وتلقى حينها تدريباٌ مكثفاً أثمر عن عددٍ من اللوحات المميزة التي كانت بمثابة تشكل ملامحه وشخصيته الفنية على نطاق أوسع لاحقاً ولعقودٍ ممتدة بدأت منذ أواخر حقبة الأربعينيات ومنها لوحة بعنوان (الأزمة) عام ١٩٤٨، بالإضافة إلى لوحتين في العام التالي جعل كل منهما المرأة محوره الرئيسي في لوحة (امرأة أمام مرآتها) و(حواء الحامل).. وبشكلٍ عام شهدت بداياته نوعاً من الإنطلاق والتمرد الحذر حيث شهد العام ١٩٤٨ تقريباً بداياته الإحترافية حيث رسم أول لوحةٍ زيتية لوجهه مرتدياً قميصه الأبيض مقبلاً على الحياة بصدرٍ مفتوح ورغبةٍ في الإنجاز والتمرد، لكن مع تأنٍ واضح في لمساته اللونية المتعاقبة التي صنعت أسلوبه الخاص، لكن وبكل أسف شهد هذا العام أيضاً النكبة الفلسطينية التي دفعته مع الكثير من العائلات إلى التوجه من القدس إلى بيروت وتحديداً في منطقة برج حمود التي تحتضن أيضاً الكثير من العائلات الأرمينية..


واستدعى ذلك الإنتقال من بيته في القدس ذاكرته الأرمينية التي ظل عالقاً بها الأهوال التي رأوها عقب الإبادة الجماعية التي لم تمحها السنون، لذا كانت السنوات الأولى لبول غيراغوسيان في لبنان غير سهلة، حيث امتلأت بالتحديات والصعوبات التي صادفته حتى شق طريقه وصنع اسمه بإصرارٍ وتحدٍ كبيرين بدايةً من تقديم نفسه وأعماله إلى الفنانين اللبنانيين والعرب، ثم انخراطه في الأوساط الفنية والثقافية التي سهلت بدورها اشتراكه لاحقاً في أكثر من ١٠٠ معرض فني مشترك بين فلسطين والأردن ومصر والعراق والولايات المتحدة وروسيا والبرازيل واليابان وبريطانيا وإيطاليا، حيث لم تثنه ظروف اللجوء والإنتقال من بلدٍ لآخر عن إتمام ما بدأه، فقد بدأ دراسته الفنية في القدس في معهدٍ إيطالي حيث تعلم أصول الرسم، وثم تابع دراسته في إيطاليا وفرنسا والولايات المتحدة الأميركية، وكانت أهم محطاته (في هذه المرحلة) هي اشتراكه في (غاليري كوفه) في العاصمة البريطانية لندن خلال معرض للفنانين اللبنانيين المعاصرين، إذ برز في هذا المعرض الذي ضم عدداً من أقرانه الفنانين اللبنانيين وحقق نجاحاً كبيراً آنذاك..


وخلال مسيرته الزاخرة التي استمرت قرابة الخمسين عاماً مُنح بول غيراغوسيان العديد من التكريمات والألقاب أبرزها (سيد الفنانين التشكيليين)، كما نال الكثير من الجوائز ومن أهمها الجائزة الأولى من أكاديمية الفنون الجميلة بفلورنسا بإيطاليا عام ١٩٥٦، والجائزة الأولى في المعرض الدولي في غاليري (لا بيرمانونتي) في روما عام ١٩٥٧، ثم نال بعدها الميدالية الذهبية خلال معرض (رسامي توسكانا) عام ١٩٥٨، كما نال الجائزة الأولى في (باريس بينال) عام ١٩٥٩، وقد أقام عدداً من المعارض الهامة عبر مسيرته ومنها على سبيل المثال لا الحصر..

عدة معارض فردية في باريس في (غاليري موفيه) عام ١٩٦٢، ثم أقام معرضاً في كلٍ من الغاليري الفني الدائم في (فلورنسا) إلى جانب معرض في (غاليري كابرولا) بميلانو في إيطاليا عام ١٩٦٣، وأقام معرضين في ألمانيا عام ١٩٦٥ أولهما في (غاليري غار تنهوس) في ميونخ والثاني في جمعية الفنانين بماربورغ، كما أقام معرضاً في غاليري (أونفل دو فوبور) بباريس عام ١٩٦٧، ووصل بأعماله إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي أقام فيها أكثر من معرض وحقق فيها صدىً مميزاً عام ١٩٧٠ والتي برز فيها من خلال معرضه في (غاليري كوركوران) في واشنطن والذي كرمه واختاره فنان العام، دون أن ننسى (مركز تيكيان للثقافة) والذي كرمه خلال عقد الثمانينات في لوس أنجلوس، إلى جانب المعارض الفردية التي أقامها في عمان والرياض والكويت ودمشق..

شخصية بول غيراغوسيان ثرية، عميقة، متعددة الأوجه، ومتدفقة المشاعر تحمل بداخلها الكثير من الدوائر الإنسانية التي تتقاطع مع بعضها وكانت السبب في إنتاجه لفنٍ يشبهه فلا يعبأ في سجن نفسه أو فنه ضمن الأزمنة حيث قالت ابنته مانويلا عنه بأنه (لم يكن يحب إقامة اعتبارات للزمن)، كونه يحمل زمنه وتوقيته الخاص بداخله فينتقل به وجدانياً من جيلٍ لآخر ومن ثقافةٍ لأخرى بدءاً من عائلته التي شكلت الدائرة الأقرب وصنعت بكل ما يتصل بها معالم طريقه، ذلك الطريق الممهد بالأيقونات الدينية واللمسات الروحانية التي تربى عليها والتصق بها وبمعانيها في بيئته الأرمينية، والتي غلفت علاقته بوالدته وصبغت نظرته للحياة وجعلتها أكثر تقديراً للمرأة وشعوراً بالإمتنان نحوها وللمعاني التي تجسدها من قوةٍ وصبر وقدرة على العطاء وإعطاء الحياة لغيرها، كما أن مفهوم العائلة ككل حاضر في أعماله بقوة وكأنها بالنسبة له هي الأساس الذي بنى عليه مفاهيمه وكون عبره رؤاه الفنية والإنسانية، والتي ترى كل من تجاهلهم الناس ومروا عنهم دون أن يلتفتوا إليهم أو إلى معاناتهم مثل والده العازف الكفيف الذي رحل في صمت ككثيرٍ من الأشخاص المهمشين، وكان رسمه لصور له ولأقاربه وعائلته أثر مهم في مسيرته، حيث دفعه لإستكشاف الآخرين وحمل أوراقه وأقلامه لمتابعة تحركاتهم عن كثب والتأمل في ملامحهم وتصرفاتهم وردات فعلهم فاستطاع أن يسبر أغوارهم ويلتقط تفاصيلهم بذكاء وعفوية ومقدرةٍ على ملامسة أحاسيسهم من مسافةٍ قريبة لم يعتدها الكثيرون، فترجمها إلى العديد من اللوحات الزيتية المتنوعة والبورتريهات المرسومة بالأقلام الفحمية كما كان يتعامل مع الألوان بشكلٍ انسيابي بعيد عن التكلف والتعقيد، قادرٍ على التشكل مع الوجوه والمشاعر والحالات بقوةٍ شديدة وهو ما جعل الكثيرين يعتبرونه مدرسةً فنية مستقلة بحد ذاتها..


ففنه ذو النزعة الروحانيّة والمتصلة بالماورائيات تجعله يبدع كمن يصوب ريشته نحو شخصياته ليقتنص روحها من المسافة صفر، المسافة المفترضة بين أي مبدع وبين الإنسان وآلامه وانفعالاته وذاكرته وذكرياته التي توجهه وتملي عليه الحالة التي ينبغي أن يقدمها والدرجة التي يجب أن يبلغها ليصل إلى جوهر الشخصية وعمقها ضمن السياق التي وجدت فيه، والذي أجاد بول غيراغوسيان تقديمه من خلال ثيمات ومواضيع متعددة ارتبطت جميعها بتناقضات الحياة ومشاهداته اليومية وتاريخه الشخصي الأرميني الفلسطيني ما بين الولادة والموت، والحب والأسى والغفران بالإضافة إلى معاني الألم، المنفى، اليأس، الإيمان، الذات، الإنتماء، وحركة الشارع والعمال التي شغلته كثيراً وأثرت في نتاجه عدا عن المواضيع الأساسية التي شكلت القاعدة التي انطلق منها وهي النساء، الأمومة، العائلة، والروحانيات..


فالإنسان بشكلٍ أو بآخر بتجاربه وعواطفه هو وقود أي عمل فني أو فلسفي أو فكري، هو منبع التساؤلات التي قد لا تخطر على بال وقد يبدو ما يعتقده الناس عيوباً أو عقداً هو التجسيد الحرفي للتفرد الوجداني الذي يتمتع به شخص دون الآخر، فنلحظ ضمن أعمال فناننا ذاك الزحام والتلاصق الجسدي البعيد بمعناه الحقيقي عن الجنس، فهو يشير إلى ذلك التوق إلى التلاقي والتلاحم العاطفي والإنساني الذي بددته الحروب والصراعات والهجرات المتتالية فجعلته مستحيلاً مما تسبب في انتزاع الأمان من النفوس، ذلك الأمان الذي يتحقق بالتلاقي والإحتضان وتحول الوحدة إلى كثرة تولد الشجاعة والقوة والدفىء وتضفي شعوراً بالراحة والأمن والإستقرار والسكينة والإحتواء، لذا نجد الغالبية العظمى من وجوه بول غيراغوسيان بلا ملامح في اشارةٍ إلى الخوف والقلق الذي يسلب من الإنسان شعوره بذاته، بكينونته، بملامحه، بوجوده ويحوله إلى نقطةٍ تائهةٍ في زحام اللغات، وهو ما يخلقه تماماً الإحساس بالفقر والجوع والعوز والحاجة إلى الراحة ومد يد العون ويجعل البشر في حالةٍ من الإنزواء والإنكفاء على الذات.. ذلك الملاذ الأخير  لأي إنسان والذي غرق بول غيراغوسيان في التعبير عنه حتى لوحته الأخيرة التي رحل دون أن ينتهي منها عام ١٩٩٣، وقد طبع الإنحياز للبسطاء والضعفاء والمغلوب على أمرهم مسيرته بشخصياتها الكثيرة التي توالدت على مدار سنوات حياته من القدس إلى بيروت مروراً بالعديد من مدن العالم التي لم تنسه جذوره، لذا احتلت الأيقونة المسيحية المقدسية مكانة مركزية في نتاجه، فيقول عنه الفنان الكبير والمقدسي الآخر كمال بلاطة (من خلال عناصر الأيقونة المسيحية أخذ غيراغوسيان في تأسيس العالم الأيقوني الذي توسطه جسد الإنسان، بمثابة المفتاح الذي أدخلنا غيراغوسيان بواسطته عتبات الزمن الفلسطيني)، أما غيراغوسيان نفسه فيقول عن حياته الفنية في القدس وبيروت معاً (وعرفت أن العالم يعيش أيضاً في دير كبير، والإنسان في أي مكان، داخل الدير أو خارجه، يفتش دائماً عن طريق)…

 تأثر غيراغوسيان بالإنطباعيين َلكنه أعجب بفان كوخ بشكلٍ خاص لأدائه التلويني ومعانيه العاطفية، ووجد بول أن ما يجمعه بفان كوخ هو الألم الوجودي الحاد وهو ما نستطيع أن نراه في اتصاله بكل ما حوله وحساسيته له، فوجدت  رسوم ولوحات كثيرة لجولييت زوجة الفنان وأولاده وعائلته خاصةً لوالدته راحيل التي صوّر  تقلبات الزمن على وجهها وعينيها الحزينتين، غير أنه في مرحلة الحرب شهدت ريشة غيراغوسيان انقلابات نحو الانفعالات المشحونة بالألوان المتفجرة والغاضبة والسحب الرمادية والسوداء خاصةً بعد حادثة بتر رجله عام ١٩٧٤، والتي زادت من قوته وإصراره على الإستمرار رغم الألم، كما ازدانت مسيرته بالكثير من اللوحات والجداريات لأعمالٍ وأسماءٍ فنية هامة تلف معظمها ولم يبق منها سوى قلةٌ قليلة، لكن البصمة الإنسانية التي تركها كانت عابرةً للحدود واللغات والطوائف وتحدثت بلغةٍ واحدة يفهمها كل كادحٍ، حزينٍ، وحيد، مغترب ومعذب تذكرنا دوماً بالجرح الأرميني والنكبة الفلسطينية والوجع اللبناني الذي انصهر في بوتقة فنه الذي أصبح علامةً فارقة تمثل مرحلةً هامة عاشها الإنسان في منطقتنا والعالم، وتؤكد على أن لغة الفن الحقيقي لا يحتاج إلى ترجمة بل إلى روحٍ تشعر به..


خالد جهاد..



الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..

الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..





الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..
بول غيراغوسيان


الكاتب الصحافي / خالد جهاد يكتب مقالًا تحت عنوان (بول غيراغوسيان.. الفن لغة الإنسانية)..
خالد جهاد 


Share To: