الأديب التونسي : عبدالكريم جماعي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "سقوط الأوثان" 


الأديب التونسي : عبدالكريم جماعي يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "سقوط الأوثان"



(كدأبه في ذلك الصباح الباكر من أيام الصيف...كان يرعى غنماته عند سفح الجبل القريب..يراقبها بحرص شديد وهي تتّبع بقايا الكلأ المتناثر قبل العودة الى المنزل عند اشتداد الظهيرة ..يهش عليها بعصاه كلما حاولت احداها الابتعاد عن القطيع.. أو يرميها بحجر حين تهم أخرى بالاقتراب من حقل الزيتون..تماما كما أوصاه جده..كان يقضي وقته كله يدندن بأغان يحفظها أو يسترجع طرائف ما وقع في الأيام الماضية مع أترابه..لكنه اليوم بالذات شعر بتوتر غريب لم يعهده من قبل..جعله مشوش التفكير..مهموم الخاطر..راغبا و بشدة في العودة باكرا..فقد بقيت عالقة في ذهنه مهمة كان يعتزم القيام بها سرا..منذ مساء الأمس.. حين مرّ صدفة رفقة أصحابه  باحدى الخرائب عند مرتفع غير بعيد..فقرر في نفسه أمرا..ربما يكون له وقع خطير..لكنّه صمم على فعله مهما كلفه من خسائر..!!

قفل راجعا يسوق شويهاته أمامه..يحثها حتى تسرع خطوها..كانت تتلكأ أو هكذا خُيّل إليه..أصبح ينهرها و يلوح في الهواء بعصاه و يدفع بيديه من تتأخر منها عن مسايرة البقية..أمسى الوصول الى الزريبة غاية في حد ذاتها..بسبب أن الماشية كانت قد حصلت على كفايتها من الرعي فأضحت تسير الهوينى..غير آبهة برغبة صاحبها في الوصول بأسرع ما يمكن..تنفس الصعداء حين صار على مشارف الديار..حتى أنه نسي أن أغنامه كعادتها ستسبقه جريا علها تظفر بما أعدّ لها من شعير أو بقايا خبز يابس.. وُضع أمام الزريبة قبل ان تَدخلها لتنعم بالظل وهي تجتر كل ما التهمته في ذلك الصباح..أحكم اغلاق المنفذ ببرميل قديم..ثم وضع فوقه بعض الأغصان اليابسة الغليظة..دلف الى المطبخ..كأنه لص..يريد أن يتناول ما يسد رمقه..و يغادر قبل أن يراه أحد..وفي نفسه تصميم غريب على انهاء ما شغل تفكيره...

اتجه بحذر مفرط الى تلك الهضبة التي مر بها بالامس..فقد رأى فيها بناءً غريبا لا يزيد ارتفاعه عن المتر..شيد على شكل دائري بأحجار مختلفة الاحجام وضعت فوق بعضها في غير تناغم..مساحته لا تتجاوز مساحة القن الذي تضع فيه  جدته  دجاجاتها الستة..!!

وصل الى هدفه المقصود دون عناء..التفت حوله..خشية أن تراه العيون المتطفلة..اطمئن حين تأكد من خلو المكان..فلا بشر يتجول في تلك الارجاء..اقترب من الخرابة ببطء..دار حولها..وجد بها فتحة صغيرة من جهة الشرق..جلس على ركبتيه و ألقى نظرة الى الداخل..مد يده محاذرا أن يصادف احدى الحيات..كانت توجد ثلاث أواني فخارية ..مُلأت احداها بالماء..والثانية فيها بعض القطع النقدية الصفراء من فئات مختلفة..أما الأخيرة فبها بقايا ما يشبه الشحم الذائب..بحث حولها..عثر على علب صغيرة متناثرة من أعواد الثقاب بجانبها كيس به شموع قليلة..وقف مجددا..جال ببصره في الشعاب المحيطة..لم يكن خائفا رغم انه لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره..غير أن فكرة تحطيم ذلك الشيء والعبث بمحتوياته كانت تراوده بشدة..

فقد سمع من رفاقه حين مروا بذلك المكان بالأمس..أنّ هذه الخرابة تسمى " المعمورة" و توجد مثيلاتها بكثرة في أغلب الهضاب في ذلك الريف..تقوم بتشييدها بعض العجائز اللاتي تحرصن على اشعال شمعة كل ليلة جمعة من كل أسبوع..كما يضع العابرون  قطعا نقدية على سبيل الصدقة..أما الماء فهو شراب للجان الذي يملك المكان..فهي بالتالي بمثابة تعويذة تحمي القاطنين هناك من السحر و العين و غيرها..

كان رغم صغر سنه يمقت تلك الخرافات و لا يطيقها رغم تحذير الصبية له بأن كل من سولت له نفسه سرقة النقود الموضوعة هناك او حتى مجرد ازالة بعض الحجارة..فهو بالتاكيد ستصيبه لعنة آثمة أو مرض خبيث أو مس من الجنون..لن يقدر بعدها على الشفاء..!

تراجع قليلا كان مترددا وهو يتخيل تلك الاشباح التي ستأتيه في الظلام و تعاقبه..و فجأة استجمع كل رباطة جأشه وانهمك في ازالة تلك الحجارة بهدوء حتى لا يحدث ضجيجا من شأنه أن يفضح أمره.. ثم وضع المال والكبريت الذي وجده في جيبه...غادر بسرعة بعد أن ترك تلك المعمورة قاعا صفصفا..و قلبه يرقص فرحا و سرورا غامرين..لأنه استطاع هدم أحد تلك الاوثان..لكنّه كان غرّا صغيرا..و لا يدري أن الوثن الاعظم هو ما ترسخ في الأذهان وصدّقه الإنسان..!!)



Share To: