الأديبة المصرية / أ. فاتن فاروق عبد المنعم تكتب مقالًا تحت عنوان : العلم والدين


الأديبة المصرية / أ. فاتن فاروق عبد المنعم تكتب مقالًا تحت عنوان : العلم والدين


(4)

الحضارة الرومانية:

والتي تحولت في نهايتها إلى المسيحية، كان من المفترض أن تقود بلاد البحر المتوسط بضفتيه والتي كانت تمتلك زمامهما مدة ألف عام، توقف العقل الأوروبي على قناعته بالبومة منيرفا التي تطير في الغسق، وأن البحث في العلوم التطبيقية هو سوء استعمال للعقل، بينما العرب تحت راية الإسلام كان يكفيهم مائتي سنة فقط كي يصبحوا القبطان الذي يقود السفينة بأريحية، أما المسوغ الذي جعلهم ينطلقوا بجناحي طائر فهو الإسلام نفسه.

يقول أجريبا نيتس هام (1486- 1535) عالم في الآداب القديمة:

"لقد أصبح العرب مشهورين في الطب، إلى درجة اعتبرهم الناس معها مبتكرين لهذا الفن، وكان في استطاعتهم إثبات ذلك بسهولة لولا أنهم أكثروا من استعمال الأسماء اللاتينية واليونانية فتنكروا لذاتهم، لذا فإن كتب ابن سينا والرازي وابن رشد، قد لقيت نفس الإجلال الذي صادفته كتب هيبوقراط وجالينوس، وحصلت على رصيد ضخم بحيث أن من رغب عنها فإنما حكم على نفسه بالبقاء مغمورا، ومثل هذا يمكن أن يقال فيه أنه يفسد الصالح العام"

المعاهد العلمية العربية:

تقسيم المعاهد العلمية إلى أقسام داخل أربع معاهد، يدير كل منها "عميد" حاصل على الإجازة في التدريس والإدارة، عدد الطلاب في كل معهد يتراوح ما بين 72 إلى 82 يدرس لهم مدرسون يحصلون على مكافآت من الخلفاء، وكل طالب يحصل على دينار كل شهر بالإضافة إلى القرطاسية اللازمة (ما يحتاج إليه الطالب من قلم ومداد وألواح للكتابة عليها وماشابه ......)

كان الطلبة الوافدين من كل البلدان والديانات يقيمون في أبنية خاصة داخل المعاهد، مهيأة للإقامة الداخلية، بها كافة الخدمات وقاعات للمحاضرات ومكتبة كبرى ويتحصل الطلاب على شهادة تسمى "البكالوريا" وهي كلمة عربية أدخلت إلى اللاتينية، تمنح للمتخرج من هذه وهي إجازة من المعهد وتخويل من السلطة بتعليم آخرين، الطلاب الأوربيون عادوا إلى بلادهم ليقيموا المعاهد العلمية على الطراز العربي دون نقص أو إضافة، إنها الأسس العربية التي نقلوها لينشئوا السربون في باريس، كما أنشأت جامعتي بولونيا وأكسفورد وغيرها طبقا للقواعد التي أرساها علماء المسلمين.

تقول زيغريد هونكة:

"لقد ارتفع الإسم العربي في ذلك الوقت إلى درجة أنه لكي يفسح الأطباء والكيميائيون والفلاسفة والصيادلة الطريق أمام نتاجهم الفكري في الأوساط التخصصية كانوا يطبعونه بالإسم العربي واللاتيني لابن سيناء، أو ماسوية الابن، أو جابر ابن حيان، .........إلخ، بحيث تعمل على شد اهتمام المتعلمين، ولقد ظلت الكتب المدرسية ككتاب القانون لابن سيناء من المواد الدراسية الراسخة في الجامعات الأوروبية حتى النصف الثاني من القرن 17 ، ثم تستطرد فتقول وبقدر ما حمل شعبنا القوطي من ملامح عربية تقريبا كذلك لم يحمل عالم الفكر الأوروبي والعلم التطبيقي أكثر من مجرد التطبيق السلبي لعناصر البناء العربية والهلينية، ولقد حظي مؤلف الرازي في الحصبة والجدري بالاحترام والارتياح على مدى ألف عام وحتى القرن 19 وقد أعيد طباعته أكثر من أربعين مرة خلال السنوات (1498- 1846)"

**********

وهذا ما لم ندرسه بمدارسنا ولا يذكره مثقفونا الميامين ولا إعلام الرايات الحمر في بلادنا كي نظل مصابون بالهزيمة النفسية المنكرة تجاه الآخر، وتظل أعيننا شاخصة تجاه منتجه العلمي والثقافي والاقتصادي بينما هم يمضون على هدي المسلمين العلمي الفاتحين الأول وما سرقوه من الأندلس والحروب الصليبية، ونحن من يستحق أن يفعل بنا ما هو أكثر من ذلك لأننا هجرنا الأمر الإلهي "إقرأ" وتبنينا وانتهجنا "ما أنا بقارئ" فكان سهل على الآخر أن نكون تابعين له دون قيد أو شرط فصرنا مسحوقي الذات والكينونة.

إن قداحة التجريب والنزوح العقلي تجاه العلم بكافة فروعه كانت بإيعاز ودفع من الإسلام وحده، وجعلت الخلفاء في سباق محموم نحو العلم حتى كان المعلم الرئيس لكل خليفة حتى ولو عد من الفساق والزنادقة هو بناء مسجد ومكتبة وتذليل الصعاب أمام الدارسين والمتعلمين (إسأل نفسك عن وضع المسجد والمكتبة الآن فتحل أمامك الكثير من الألغاز) ولكي نعلم أن الكتاب هو مكمن القوة وركيزتها فإن التتار عندما احتلوا العراق خربوا المكتبات وأبادوا آلاف الكتب والتي تحمل ذخائر العلم، مشعل هداية للمسلمين، وأغلقوا المساجد أربعين يوما لم تقام صلاة ولم يرفع آذان في بغداد.

ولم يختلف فعل بربر زماننا، الأمريكان عندما احتلوا العراق العريق سرقوا المكتبات والمتاحف، فضلا عن انتشار جيش الرب (حملات التنصير التي تلازم الكوارث والنوائب) وسرقة ذهب العراق ومخازي أخرى كثيرة ارتكبوها بدعوى نشر الديمقراطية، ولا غرو فهم لا يكفون عن التخرصات ونشر الأباطيل.

يثني المستشرق هاملتون جب على القفزة الحضارية التي نشأت في مدة وجيزة من الزمن في العالم الإسلامي متجاوزا الحدود السياسية والخلافات المذهبية لصالح النهضة التي يتسابقون لإحداثها، فكثرت المؤلفات التي أقبل عليها الطامحون والراغبون في ازدياد، وكونت المكتبات، بل إن الخلفاء كانوا يتباهون بها في مجالسهم وحريصون على الاستزادة منها كما أسست المراصد والمستشفيات، ولكن حراس العقيدة (أهل السنة والجماعة) رفضوا التماهي بين الإسلام والفلسفة كما كان يريد أن يفعل ابن سيناء.

هذه اللمحة الخاطفة ليست إلا طرفة عين لدين امتد منذ أيام ما قبل الساسانيين وحتى صعود القوميات (الختل الذي طمس أعين كل مصاب بالران والطبع والقفل لإزاحة الإسلام وإنهاء حقبته) لدحض تخرصات من يقولون بأن الإسلام هو سبب تخلف المسلمين.

وانعطاف على ما سبق فإن المستشرق الفرنسي جوستاف لوبون (في كتاب حضارة العرب) قال حزنا أن تقدم أوروبا تأخر مائة عام على كل المستويات بسبب هزيمة المسلمين في معركة بلاط الشهداء (لا بواتيه) فالهزيمة التي لحقت بالمسلمين هي التي حرمت أوروبا من استكمال العرب فتحها (ماذا جنى المسلمون من إناخة الإسلام والهرولة المذلة تجاه الآخر)

هذا المعراج الطفيف الذي تخففت فيه كثيرا من تفاصيل متشعبة قد تجعل القاريء يمل منها لذا حرصت على اكتناف هذه السلسلة القصيرة شمولية لمدلولات بعينها، منها حرص المستشرقين على جمع تراث المسلمين الحضاري من كافة العلوم والاهتمام به حفظا في متاحفهم ومكتباتهم وتبويبا وفهرسة ودراسة وتحقيقا ونشرا وترجمة وفهرسة، وإن لم تخلص نواياهم من سوء يبتغينه بالإسلام على وجه الخصوص ولكن هذا يشير إلى ملمح هام جدا ألا وهو مثل هذا الاهتمام البين دليل على ثراء هذه الحضارة التي ولدت نتيجة اتباع تعاليم الدين نفسه (الذي يبغضه منافقو المسلمين والذين لا ينتقصون إلا من الإسلام والمسلمين فقط) ودبجوا المجلدات تلو المجلدات للطعن فيه والتقليل من شأنه وشأن تابعيه، ولكن هيهات، فإن كنا بهذا الهوان لماذا كل هذا الاهتمام الذي كان ومازال؟!

المؤرخ والمستشرق الأمريكي مارشال هودجسون (1922 – 1968م):

هذا المستشرق من فرط إعجابه هو وزوجته بالحضارة الإسلامية سميا بيتهما "جمالستان" بمعنى بيت الجمال وهو من قال:

"لو جاء زائر من المريخ إلى الأرض في القرن السادس عشر فإنه كان سيظن بأن الإسلام على وشك أن يسود عالم البشر بأكمله"

{وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ} فصلت (2) 

في هذه السلسلة القصيرة عمدت بشخصي الضعيف وثقافتي المحدودة أن ألتزم منهجية التناول والصدق الذي فيه النجاة، ولم أحمل الأمور أكثر مما تحتمل، فقط أضيء بعض النقاط أو المحطات المنسية والتي كانت سببا في سؤدة المسلمين وتجليهم وياليت قومي يعلمون.



Share To: