بقعة ضوء (٢) | بقلم الأديبة المصرية أ. فاتن فاروق عبد المنعم
صورة الذات القبلية:
لم يعرف العرب حياة المدن التي لها جهاز إداري وحكومة مركزية كما هو الحال لدى الرومان والبيزنطيين وقبلهم الفراعنة، وإنما فقط الانتماء للقبيلة داخل حتى العرق الواحد،
ولا يمكن للبدوي وعائلته أن يعيش دون هذه القربى القبلية، كانت هذه الصورة النمطية هي المسيطرة عليهم حتى جاء الإسلام الذي نظم صفوفهم وصنع لهم دولة ولها حاكم ينتمون إليها وأذاب الفواصل والطبقية والنعرات القبلية التي كانت تدفعهم في حروب طاحنة فيما بينهم،
ولم يكن من السهل تدمير الولاء للقبيلة لذا الارتباط بالدين الجديد قوض الولاء لغيره،
فالقبائل التي كانت تتحارب فيما بينهم بالسنين، بعد اعتناق الدين الجديد أصبحوا جميعا يخرجون جنبا إلى جنب لفتح البلاد تحت راية الدين الجديد، وهو درس عملي لكل ذي بصيرة،
فالكل تحت لواء هذا الدين قوة ضارية، لحمة، جمع لا ينفك، فكان ولابد من فك الجمع وفرط العقد ليعودوا مرة أخرى إلى حضن الجاهلية الأولى،
وتنتشر فيهم دعواها، ويعبدون عجول السامري ويصبحون دمي يحركها كيفما شاء، يتألمون ما حيوا لأنهم حادوا عن المنهج الإلهي فاستحقوا كل أنواع العقاب الإلهي.
حيلة من لا حيلة له:
أسوأ ما يمكن أن يفعله عالم بنفسه هو أن يتغلب معتقده الشخصي على الحقائق التي بين يديه،
وهذا ما حدث مع المؤرخ هيو كيندي الذي أوعز الفتوح العربية إلى رغبة الرسول ﷺ
والخلفاء من بعده أن يتخلصوا من خلافات القبائل مع بعضهم البعض بالخروج لغزو الإمبراطوريات المحيطة بهم،
فهل لمثلي أن يقول أن كيندي يعمل الإسقاط (المعروف في علم النفس) لحروب أمراء المقاطعات الأوروبية مع بعضهم البعض فقامت الكنيسة بحشدهم وتجميعهم في جيوش الحروب الصليبية بالشرق الإسلامي للتخلص من خلافاتهم التي لا تنتهي؟
بالطبع هذا افتراء بين من عالم كان ينبغي له أن ينأى بنفسه عن هذا، ذلك أن حياة العرب القبلية كانت بقدر ما هي بسيطة بقدر ما هي منظمة،
فلديهم رحلتي الصيف والشتاء، والأعراف التي يتحاكمون بها يأخذون على عاتقهم ألا يخالفوها،
فهي ميثاق غليظ تتأبى نفوسهم على عدم الإخلال بها، حتى المشاكل والحروب إن حدثت فهي دائما كانت في طور الاستيعاب،
ولا حاجة لتجييشهم بغزو الآخرين أيا كانوا خاصة وهم دون حضارة الآخرين بكثير بل لا وجه للمقارنة،
لكن الذي لا يمكن له أن يعترف به هو أن الدافع الوحيد لهم للخروج لغزو من يفوقهم في كل شيء هو الدين الجديد الذي اعتنقوه فقبلوا التكليف الإلهي طواعية كمسوغ لمقتضى الإيمان بضرورة تبليغ الدعوة،
وبمقاييس عقلية بحتة وبحسابات بسيطة فإن إمكاناتهم كانت بسيطة جدا مقارنة بمن يغيرون عليهم،
بمعنى أن جيش المسلمين دائما كان أقل في العدة والعتاد، وأن الفرد المقاتل إن لم يحركه دافع أكبر من دنيا فانية فلا شيء آخر يجعله ينطلق حاملا روحه على كفه،
على سبيل المثال كان جيش المسلمين يتكون من 1100 فرد وجيش الفرس يتكون من مائة ألف، فكيف انتصر عليهم المسلمون، بل كان نصرنا مدويا مهيبا!!
يقول المؤرخ الإنجليزي المعاصر (75 سنة) هيو كينيدي منتقدا المسلمين الغزاة:
عندما شرعوا في غزو الدولة البيزنطية أمرهم قائدهم بحمل اثنين كيلو جرام من الغلال على ظهور جيادهم كي تكون مؤونتهم ولكنهم لم يحتاجوا إليها لأنهم اعتمدوا على الإغارات
كما أنهم ابتنوا كهوفا لتحميهم من برد الشتاء وزرعوا الأرض حولها حيثما وجدوا،
واعتبر كينيدي أن هذا هو الذي ساعد المسلمين على الانتصار على الدولة البيزنطية، فلم تكن لديهم عربات تئن بصريريها تحمل المؤون إليهم،
لذا كان من السهل عليهم الانتصار على الدولة البيزنطية،
كما أن الغزاة المسلمين دون غيرهم يحاربون بالعباءة والعمامة التي حتما كانت تعرضهم للخطر، فلا درع يغطي الجسم كله ولا خوذة من حديد تتدلى على الظهر لحماية الرقبة،
وسيوفهم بدائية وأقواسهم ورماحهم، فهم دون الجيش المقابل في كل شيء حتى العدد.
وإزاء ما تقدم فقد أوعز «الباحث المؤرخ» نصر المسلمين إلى خفة حمولتهم فقط!!
بالطبع المؤرخ الحصيف الذي أوعز النصر إلى خفة حمولة الفاتحين المسلمين لا يمكنه أن يوقن بالآية
(الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا ۚ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ ۚ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ)
66 الأنفال
لأنه غير مسلم ولا يعتقد إلا في الأسباب المادية البحتة والتي أعيته ولم يجد أبعد مما ذكره آنفا.
ثم يستهجن القول بأنهم كانوا يسعون لنشر الدعوة الوليدة فلا يعجبه قول أن المسلمين يرغبون في تحرير الرعايا الفرس من الطغيان حتى يمكنهم اعتناق الإسلام على لسان
«ربعي بن عامر» الذي قال:
«الله ابتعثنا، والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها،
ومن جور الأديان (الوثنية) إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه،
فمن قبل منا ذلك قبلنا منه ذلك ورجعنا عنه وتركناه وأرضه يليها دوننا، ومن أبى قاتلناه أبدا، حتى نفضي إلى موعود الله»
ولأن المؤرخ الحصيف لا يفهم أن العربة هي قلب الإسلام ودماغه المفكر (وأن من أجل أسباب سقوط الخلافة العثمانية هي التنكر للعروبة)،
والاعتزاز بالقبيلة التي ينتمون إليها لا يعيبهم، على الأقل في بدء الدعوة، فهو من يريد أن يلوي عنق الحقيقة ويقول أنهم غزاة سرعان ما عادوا للافتخار بعروبتهم وليس بالدين الذين يزعمون أنهم ما خرجوا إلا لنشره فيستهجن قول قائد القوات الإسلامية بالعراق، سعد بن أبي وقاص:
«وأنتم وجوه العرب وأعيانهم، وخيار كل قبيلة، وعز من ورائكم، فإن تزهدوا في الدنيا وترغبوا في الآخرة جمع الله لكم الدنيا والآخرة»
فما العيب الذي ارتآه كينيدي في كلمة القائد لجنوده سوى أن ما تربى عليه ويعتقده تغلب على ما هو جلي، وقوله «وعز من ورائكم» أليس فيه شمولية لا تنكر!
الإسلام دين ودنيا:
يستمر في استهجانه ومحاولة إثبات أن المحرك الفعلي لهم ليس إلا الدنيا بمقتضياتها فيقول:
وفي إحدى النصائح نجد الرغبة في الجنة تمتزج بالرغبة القديمة في الشهرة الدائمة في هذه الدنيا، قال ربيع بن البلاد السعدي:
يا معاشر العرب قاتلوا للدين والدنيا (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ)133 آل عمران
وإن عظم الشيطان عليكم الأمر، فاذكروا الأخبار عنكم بالمواسم مادام للأخبار أهل”
ويستمر في استهجانه وإنكاره بأنهم كانوا يأخذون السبايا والعبيد ضمن الغنائم ويقتسمونهم،
ولمثله نقول أن نظام الجواري والعبيد كان نظام اجتماعي عند البشر جميعا وليس المسلمون وحدهم،
وعندما جاء الإسلام كانت أحكامه حرصا على القضاء على هذه الظاهرة في المجتمع البشري بأكمله
ولكن بالتدريج وليس قرارا فرديا، فلو تم التخلص من هذه الظاهرة بشكل فجائي لأحدث خلل اجتماعي رهيب لا يحتمله أي نظام.
أما القتال من أجل الدين والدنيا
فهو وصف للدين نفسه الذي لا ينكر أن الإنسان مادة وروح ولكل متطالباتها شريطة أن تكون بضوابطها الشرعية، فلا تنكر لهذه ولا تلك،
ولا يتم اختيار الدين فقط إلا إذا كان في موضع اختيار بين الدنيا والآخرة، وبالطبع هو لا يعرف الآية :
﴿ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ ﴾77 القصص
ولا يفتأ كينيدي في الكذب ولي عنق الحقيقة والتهوين من انتصارات المسلمين والتقليل من شأن أي فعل أو حدث يقومون به شأنه في ذلك شأن برنارد لويس وغيرهم الكثير،
وهو فعل قد يكون مقبولا من العوام الذين تغلبهم الحماسة الدينية دون سند لكن أن يصدر من عالم هذا ما يدعونا للاستهجان،
وبالرغم من ذلك لم يستطع أن ينكر عظمة خالد بن الوليد والذي قال عنه قائد استراتيجي عظيم.
وهذه السطور القليلة التي قالها خالد لجندهم قبل معركة اليرموك أوجز فيها فكر القائد العازم على النصر أو الشهادة حيث قال:
«إن هذا يوم من أيام الله، لا ينبغي فيه الفخر ولا البغي، أخلصوا جهادكم وأريدوا الله بعملكم، فإن هذا يوم له ما بعده، ولا تقاتلوا قوما على نظام وتعبية، على تساند وانتشار، فإن هذا لا يحل ولا ينبغي»
استدعاء سطور من الماضي ليس بكائية على صفحة من صفحات مجد هذه الأمة بقدر ما هي دعوة لاقتفاء أثر المسلمين الأول الذين كانوا معدمين إلا من دين جديد صاغ لهم المنهج الذي يتبعوه كي لا يضلوا ولا يشقوا، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا ما صلح أولها، ومحاولة غير يائسة للرد على تخرصات المستشرقين ودحر الذين عملوا على إشاعة الهزيمة النفسية لدى عموم المسلمين.
وللحديث بقية إن شاء الله.
Post A Comment: