ويسألُنِّـي الرفاق عن لبنان، وكيف أقضي غُربتي فيه؟ |بقلم الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم


ويسألُنِّـي الرفاق عن لبنان، وكيف أقضي غُربتي فيه؟ |بقلم الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم



ويسألُنِّـي الرفاق عن لبنان، وكيف أقضي غُربتي فيه؟

يا أحبـائي: لبنان عظيمٌ جميلٌ كما هو، وتجاعيدُ التعب في وجهِهِ عابرة، كلُّ الحرائق لم تمحو عطر الأرز بعيني، مقاومٌ هو مُعتادٌ على بلعِ الجراح؛ كبلادي مُحتقِنُ الحُنجرة!


منذ زمن دوايت غُربتي فيه حينَ بلغتُ السابعة عشر التحقتُ بالجامعة اللبنانيّة، أذكر تماماً أنِّي تعاملتُ مع لبنان بقسوة؛ لم أكن أفتح له ذراعي وكان لدي قناعات طفوليّة، بأنَّ البلد الذي لا توجد فيه أمّي هو بلد مُوحش لا نبض فيه خاصةً أنَّ والدتي كانت على قيد الحياة، أذكرُ كيف كانت دموعي تشردُ مع الهواء، وأحبذ أن أسير وحدي كلَّ صباح، أسلكُ الطريق الأطول إلى الجامعة كي أعيد اتزاني قبل الالتحاق بمقاعد الدراسة، أحدق في الأرصفة، لا أعرف عن ماذا أبحث، رُبّما أُلمم ذاتي المتبعثرة بين الحجارة، وذات مرّة اعترضتْ طريقي نبتة ضئيلة الحجم تخترق الإسفلت الأسود، كانت بارزة جداً لونها الأخضر يلمع في عتمة الإسفلت كشمعةٍ تعلنُ عن ذاتها وسط الظلام الحالك.


من يومها ماتت غُربتي على أرصفة بيروت، بت ألمح تلك النبتة الصغيرة تختبأ خلف شجرة الأرز الضخمة الموشومة على علم لبنان، أدركتُ أن الحُريّة صنيعة يوميّة نمارسها مع كل غرسة، تعرفتُ على لبنان المقاوم، تعلمتُ أنِّي أستطيع كما استطاعت هذه النبتة أن أخلق لي وطن في كل وطن، رفعت الحداد علىٰ غُربتي، توحدتْ وحدتي مع طين السماء وماء الأرض، تمددت روحي وباتت أوطاني كثيرة، ولي في قلبِ كلِّ رفيقة بيت، ورواية لا أجد لها فصلاً أخيراً..


الآن أنا في السابعة والثلاثين، أحصي على أصابع روحي عدد ما تساقط في كفّي من حبٍّ، فأفشل وأتوقف عن هذا العبث، كيف للحبِّ أنْ يُطوِّقَ بحرفٍ أو عدد..


بعضُ القُرّاء شعر أنَّ كتابتي أختلفتْ مع هواء بيروت، وما لا يعرفهُ الرفاق أنِّي كثيرا ما أتواجد في لبنان ولا أذكر، فقد أكتبُ نصًّا ولا أدون جغرافية المكان، لبنان كائن وجودي يحيا بين شفة حرفي آخذه معي أينما حللتُ.


حرفي مازال وسيظلُّ في طورِ النمو، لقد اختلفَ بحكم تجاربي الروحيّة بأفراحها وأتراحها، بجهدي المتواصل للانعتاق من قيد دراستي الفلسفيّة للولوج لعالم الأدب؛ بقلبٍ حُرّ يحملُ أقدام طفلٍ مُشاكس، يقفزُ في وحل الحكايات ويصنعُ نشيدهُ الخاص؛ رُبما موضوع رسالتي في الماجستير في جامعة القاهرة سيُساعدني على ذلك، كونه يعالج قضية إنسانيّة جدليّة بين الأدب والفلسفة.


لقد بدأتُ رحلتي الدراسيّة الفلسفيّة هنا على أعتابِ الجامعة اللبنانيّة قرب قصر الأونيسكو، منذ عدة أيام زرتها أعرفُ أنِّي لن أجد أساتذتي الكبار لأنَّ معظمهم تقاعد، كان الجو حميميّاً، ذهبتُ وحدي وأمطار السماء معي وربيعُ الزمن الجميل، رحتُ أزور مُعلمتي في الغربة تلك النبتة الصغيرة المُجهتدة، وأحاول أن أجد في عيونها الخضراء ذاتي...


الكاتبة المصرية آيات عبد المنعم. 

بيروت..

22 ربيع الثاني 1444 هـ.

16  نـوفمبـر    2022 مـ.




Share To: