الكاتبة السورية / فاطمه يوسف حسين تكتب : الغربة والاغتراب


الكاتبة السورية / فاطمه يوسف حسين تكتب : الغربة والاغتراب


تقول: في روما لا توجد أحاديث عن الغربة والاغتراب، وكثيراً ما يتجاوزون موضوع اغتراب النفس عن الموطن الأصلي إلى موضوع آخر، اغتراب النفس عن النّفس. هُنا، الشّوارع مليئة بالنّاس، لا أحد يسمع فيروز، موسيقاهم على حلاوتها موجعة قليلاً، تذكّرني بمنزلي في دمشق، بالنّاعورة وسنبلات القمح، بالحجار والسّقف. لم أعد أسمع صوت أمّ أحمد وهي تتبادل أطراف الحديث رفقة أمّي، فتحدثها عن طبخة اليوم، وما الّذي حدث في الحارة وأيضاً لم تعد تكلّف نفسها عناء الحديث عن النّاس وأقوالهم وأفعالهم، توقفَت عن نقدهم. 

في روما، تجالس أمّي كلّ الوقت الشّرفة، تستمتع وهي تسقي ياسمينة انتشلتها من بيتنا قبل الرّحيل عنه، تسمع أم كلثوم بصوت خافت جدّاً، بعد أن كانت تسمعه بصوت عال جدّاً، تغني رفقتها: عودت عيني، على رؤياك! وتبكي. 

وكلّما سألتها عن سبب البكاء، تجيبني: لا أحد يستحق أن يسمع أمّ كلثوم هُنا، سواكِ وأنا. 


في روما، أخرج للعمل سعيدة بكيفية معاملة الإنسان لأخيه الإنسان، على الأقل هنا لا يوجد حرب والحيوانات تعيش بترف، لم أشاهد كلباً يحك جلده طوال الوقت، أو حتّى يسترق النّظر إلى قطعة لحم. لكنّي حقّاً، أوّد أن أجالس أصدقائي مرّة أخرى وأحدثهم عن رواية امرأة لا تعرف الحُبّ وكلّ همها الارتحال، أتلهف لأسمع الناس وهي تشتكي من أمورٍ حلاوتها تكمن في مداعبتها الألم، كانقطاع التّيار الكهربائي، واستنشاق الماء كلّ ثلاثة أيام، وإعدام الهواء. أتلهف لسماع أحاديثهم السياسية، معارضة البعض وتأييد البعض الآخر، لحواراتهم التي تشبه كلّ شيء من حيث المبدأ إلا مبدأ الحوار. ياه كم أفتقد لبائع الفلافل، كان كلّما رآني أعطاني قرص فلافل هدية. أفتقد لسؤالي حينها: هل يوجد في روما بحر؟ لابن الجيران الذي كان يلاحقني طوال الوقت مردداً: قمرة يا قمرة لا تطلعي ع الشجرة! ولانفعالي القائل حينها: اغرب عن وجهي أيها الغبي. وأحتاج أكثر ما أحتاج إلى ولد علّمته الكلام فعلّمني اللّغة، أشتاق لأم أحمد وهي تنتقد لباسي، أظافري، ورائحة عطري. وهي تنادي أمّي ضاحكة: وزارة الكهرباء أصابها الجنون، الغسالة لأوّل مرة منذ سنوات تعمل لساعتين متتاليتين لا لساعة واحدة! 

أفتقد صدق الابتسامة على وجه أمّي، وحتّى صدق البكاء، خاصّة حين توشوشني قبل النّوم: كنا هُناك، على الأقل، نزور كلّ جمعة قبر والدك!


تقول: في روما، موجود كلّ شيء، الإنسان، العِطر والماء والضّوء وأنفاسه أيضاً، لكنّي يا للعجب.. اشتقت له، لرسائله الليلة المتسللة من تحت الباب، لملابسه الّتي كنت أسرقها من داره كلّما أتيحت لي فرصة غيابه وأهله عن المنزل، لأغلق بعدها باب حجرتي، أرتديها وأستشعر وجوده، لسيجارته الحالمة بشفاهي، الهائمة بي. اشتقت لغيرته، لخوفه، لحبّه، لنظراته وابتسامته، لأن يكون لي فقط، دون أن يشاركني به أحد! 


أقول: في دمشق، يوجد الإنسان أيضّاً.. لكنّي حقّاً، أسألني: متى ينبت فيها بحراً ليزيل كلّ ما مضى، ونعيش مرّة أخرى قصصنا المنسية؟ وأؤكد: حتّى أنا، اشتقت إليه!



Share To: