الكاتب الصحافي الجزائري / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "إيميس"

الكاتب الصحافي المغربي / بشير عمري يكتب قصة قصيرة تحت عنوان "إيميس"



إيميس

لم تفتح إيميس نافذة غرفتها اليوم فحسب ولم تكتف بأن أطلت من خلالها برأسها، بل ابتسمت، أجل ابتسمت حتى أشع بريق ابتسامتها من إطار النافذة وأضاء صحن الحديقة في وضح النهار، لست أهرف بالكلام، أو أقول ما تعود على المبالغة به الشعراء العرب ! لكنها الحقيقة التي تسكنني من يوم أن حضرت هذه المعجزة، ولست مرغما على أن اقسم بأن هذا الذي حدث، ولا أن احضر شاهد لأحد ليؤكد ما رأيت، فمذ حدثني عن حكايتها أنس وأنا ارقب خروجها من البيت لأرى حقيقة ما سمعت.

أذكر أن أنس قال لي ونحن نتحدث عن استحالة الرسم تحت صوت المطر، وأن الألوان تذوب وتذبل تحت صوت السيول وقصف الرعود، وأن أغلب الراسمين لا يحبذون حمل الريشة ومداعبة صدر اللوحة الأبيض الأخاذ في هكذا وضع غاضب للطبيعة، طبعا أنا لست رساما ولم أجرب حقيقة هاته الحالة، أنا صحفي أكتب بغزارة ولا يجد القلم بيدي مشكل في سيلانه مع المطر أو في الرقص على الورق مع العواصف والريح، فلونه واحد، وخطه واحد، وصوته أحد ! ولا شيء سيسوء أو يفرح من يرى أثره في نهاية !

ضحك أنس كثير ولم أفهم سبب ضحكته، قلت في نفسي ربما أضحكته عبارة أنا صحافي عربي ! لكن ليس في هذا شيء ما يُضحك في رأي ! ثمة الملايين من الصحافيين العرب، فهل يضحك وجود هذا الشعب في شيء؟ فعدت وقلت ربما أضحكته عبارة سيل قلمي مع المطر ! أو ربما رقصه مع الريح، انتظرته حتى يفرغ من قهقهته الطويلة التي لم أتعود أن يُستقبل بها كلامي مذ حللت بألمانيا لازور أحد أقاربي، فتوجهت إليه بعد أن تجاوز نوبة الضحك التي ضربته:

ـ هل قلت ما يستحق هذا السخاء في الضحك؟

ـ لا عفوا لم اضحك منك عزيزي، إنما ضحكت من شقيقتي “إيميس”

كان الاسم غريبا علي، فظننت أن لأنس أشقاء من أم غير عربية، أعرفه سوري مذ دققت بابه على الفيس بوك وأذكر يومها كم ضحكنا بحرف “الهاء” ككل العرب في حوار على “الشات” حين سألني كيف عرفت أني عربي مثلك رغم أني لست بلون بشرتك السمراء، ولا شعرك الأسود المتجعد؟ كان سؤاله حينها ذكي لكن ليس بالصعوبة التي تجعلني اسقط في زوايا السذاجة التي تضمنها أيضا، فمازحته حين جبته أنا الآخر بزاوية ساذجة من أجوبتي الجاهزة.

ـ شممت فيك رائحة الشمس العالقة بصورتك !

صمتت حروف أنس حينها، ولم يسخر من عبارتي رغم أنها فعلا مدعاة للسخرية بل للتهكم ! كيف نشم رائحة الشمس، ومن خلال الصورة، وعبر النت أيضا؟ وطبعا لم أترك أنس هكذا قيد إجابتي الآسرة، فسألته:

ـ من إيميس هاته؟ أهي شقيقتك؟

نعم شقيقتي هل في ذلك غرابة؟

لا فقط سألتك لأني لم أرها في ألبوم صورك، الواسع والكبير والذي امتد حتى للحيتان الكبيرة بالبحر الجامد.

الحيتان تلك هي من صميم عملي بالشاطئ فأنا باحث في علوم البحار، أحاول أن أعرف الكثير عن موطن ميلاد الحيتان وسبب انتحارها في الشواطئ الساخنة.

لم يرق لي أن أواصل الحديث مع أنس عن تخصصه، وعلوم البحار وحياة الحيتان وانتحارها ! أجزع للاكتشافات العلمية كثيرا، كما أني أجد أنه من السخافة وقلة الذوق الحديث عن انتحار الحيتان البيضاء في الشواطئ الساخنة والناس يموتون هذا اليوم في السواحل العربية وشط العرب، فتحايلت عليه لأعيده على الحديث عن “إيميس” التي لم أرها في ألبوم صوره الجميلة المعلق بجدران النت، “إيميس” التي ضحك بسببها حين حدثه عني وعن قلمي الصحافي.

ـ صارحني أنس، هل ضحكت مني أم من “إيميس”؟

فهم الماكر أنني أحاول أن أعرف بغباء الصحافي العربي كل شيء عن شقيقته، لاحظت ذلك في توقيته المتأخر في الجواب عكس ذاك الذي كان يسلكه حين يكون عفويا بحق، لكنه مع ذلك أخذ يتصنع التلقائية في الرد، وقال لي:

ـ هي عاشقة للفن الفصلي!

الفن الفصلي؟ ما أكثر تفرعات المصطلحات عند إخوتنا العرب في المهجر، ما إن يخرجوا من بيضتنا حتى تشرع ألسنتهم تلوك كلمات ومفاهيم نشعر من خلالهم أنها حجر في دواخلنا، شعرت بشيء من الحرج وسايرته في الحديث أنا الآخر مفتعلا الانسجام!

ـ نعم فهمتك، هي الأخرى لا ترسم وقت المطر؟

ـ إيميس لا ترسم !

ـ ترقص؟

- كلا !

- ؟؟

ـ إيميس تنحت.

ـ فهي إذا لا تنحت على الحجر تحت المطر؟

بدأ أنس ينزعج من تركيزي على الحديث عن الطبيعة وعلاقة اخته بها، لكنه لم جرؤ على إخراسي، فأنا عربي ضيف لديه في الغربة وتحديدا في البلاد الغربية، فواجب الضيافة يحتم عليه مسايرتي في الكلام، وإكرامي بما اطلبه ولو بالحديث عن شقيقته “إيميس” مع أنني كنت أتألم في دخيلتي مما يجري في دخيلته فهو ربما كان في غور نفسه يلكمني ويركلني ويشتمني، كأي عربي: كيف تجرؤ على التحدث معي بشأن أختي، هل تظن أن تغير الأرض من تحت أقدامنا يحرر كل ألسنتنا؟ ألزم أدبك !”

جزعت لهاته الصور المخيالية قبل أن يردني على الواقع حين طلب مني مرافقته إلى ورشة كبيرة بالقرب من بيتهم بها قبو بارد صيفا وشتاء، ثم كشف عن الستار الأخضر الكبير عن نصف تمثال غامض، بالكاد تفجر خصره من قاعدة صخرية، دققت فيه جدا وحاولت أن أفرز إن كان ذكرا أم أنثى، هل مدني أم عسكري، هل آدمي أم خليط من الخلائق، اعترف أني لا أجيد التجريد عادة في الرسم فما بالك بالنحت فأنا لست سوى صحافي عربي، صمتَ أمامي كصمت مشروع التمثال ولم أنبس أنا بدوري ببنت شفا، مخافة أن اقرأ العمل قراءة خاطئة وكان هذا أقرب الاحتمال في الحقيقة.

ـ مذ عادت من سوريا وهي مهووسة بهذا العمل

ـ ولمَ؟ هل استوحته من شيء مر بها هناك؟

لا أدري، تمثال يعيش جنينا في بطن خيالها منذ أزيد من عام!

لم أكن أعلم بعمر أجنة التماثيل في بطون خيالات النحاتين سجلت المعلوم في دفتري الصحفي كعادة كل صحافي عربي على مرأى منه..

ثم أطلقت العنان لأسئلتي الغبية!

ـ هل أجنة التماثيل هي بهذا العمر في خيالات النحاتين العرب أم حتى هنا في الغرب؟

نظر إلي ضاحكا في صمت هاته المرة، سمعت ضحكته الصامتة وهي تهزه من الداخل لكنه أسرها هناك!

ـ لا فقط لأن إيميس اعتادت أن لا تنحت إلا في حضرة الشمس !

ـ لكن الشمس لن تتسرب إلى القبو فما الفرق إذا؟

ـ إيميس تحتاج إلى حضور الشمس ولو على باب القبو وهي تنحت هل فهمت لماذا ضحكت أنا أيضا قبلا؟

لم أعد وقتها اذكر هل كانت الشمس ساطعة فوق القبو قبل أن أنزل إليه أنا وأنس أم لا؟ ففي ألمانية الشمس هي بنزوة الرجل الشرقي في موضوع النساء، ملولة لسماء أناس مسحوقين بشبق الشمس وحرارتها يسلمونها أجسادهم بلا مقابل وبشكل مجاني أو ماجن حتى، بينما في البلاد العربية تفرض الشمس بقسوة حرارتها حظرا للتجوال صباحا وظهرا، لم اجهر بهذا التشبيه لأنس حتى لا يربط المسألة في تفكيره ويحسب أنني اقصد شقيقته “إيميس” فيخرسني بنصف ذلك التمثال حين أفاجأ به لا قدر الله وهو يترطم بوجهي ! لكني استحضرت وبسرعة تشبيها آخرا، كنت بارعا في أسلوب التشبيه، كل مقالاتي تحفل به، فقلت له الشمس هنا بالتقسيط، كالكهرباء في البلاد العربية !

ضحك أنس !

طبعا لم أساله عن حال الشمس فوق القبو حتى لا ينكشف حجم غبائي للعرب الالمان! لكني سالته:

ـ يعني هذا التمثال سوف لن يكبر؟

ولماذا؟

ـ لأن الشمس لا تطلع هنا كثيرا !

ـ لا أدري اسألها هي..

لم أعرف من هي هاته “الهي” التي كان يقصد أنس، الشمس أم إيميس؟ لم أندفع أو أتسرع هاته المرة بأسئلتي المتهورة حتى لا أرتكب حماقة أخرى، لكن الفكرة التي قفزت حالا إلى رأسي كانت جهنمية وخطيرة، نعم أعترف بذلك، استوحيتها من مكاني في البلاد العربية، فقد كنت مذعورا يوم صدر البيان الأول من التلفزيون الجزائري عن كسوف كامل للشمس وكادت صفارات الإنذار وطبول الفزع أن تقرع وتدوي كي ندخل بيوتنا ونغلِّق أبوابها ونوافذها ونغطي أطفالنا حتى لا نرى العاطفة بين الشمس والقمر البعض قال أن الأمر عيب! وأخر قال أنه حرام! والأطباء قالوا: ادخلوا مساكنكم كي لا يطمس ذلك عيونكم! لكن الألمان خرجوا حينها من مخابرهم بأدواتهم ليصطادوا لحظة جُمع الشمس بالقمر على سرير الفضاء الواسع الرحب، سالت أستاذي للفيزياء عن طريق الهاتف فأجابني من غرفة نومه هو الآخر أن الألمان يحسبون لهاته اللحظة بالحاسوب !

فهي عملية حسابية إذا!

عدت إلى غرفتي بالفندق في برلين، فتحت حاسوبي أنا الأخر طرقت باب المواقع العلمية، شطبت القمر ثم قمت بحساب حركة الشمس والغيوم في سماء ألمانيا لمدة أسبوع كامل، وضعت خطا بالأحمر تحت يوم الخميس التاسعة صباحا، خرجت يومها الساعة السابعة أحمل كاميرا هاتفي النقال ذات الجودة العالية، اختبأت وراء شجرة بالقرب من المنزل، وحالما قفزت الشمس من خلف الجبل ومسحت شباك غرفتها حتى فتحت النافذة فانعكس ذهب شعاعها على وجهي لم أدر ساعتها هل كان ضوء الشمس أم نور “إيميس “!

Share To: