ألشارع اللبناني !   | قصة قصيرة بقلم الكاتبة اللبنانية نسرين حرب 



  

ألشارع اللبناني !   | قصة قصيرة بقلم الكاتبة اللبنانية نسرين حرب

                              

                                       (1) 


يقولون أن للشارع اللبناني رأياً واختياراً . أما أنا ، يا مصطفى ، فهذا رأيي وما رأيت . شارع يفتح باب البؤس على مصراعيه .ألكثير من الكافيهات والكثير من الشباب ، والأراغيل تنادي أيها العاطلون هيت لكم ، وبنات حيياتٌ أبغضن المشي أمامهم. خفن على أنفسهن من العيون الفارغة من كل شيء إلا من آثار الصبا  ، لا تمارس غير فعل التمني والمبسم ينادي عالمعسَّل تنكفئ جرة العسل على رأس صاحبها ، يصحو. لم يكن إلا حلماً من دخان كثيف  أصابه بدوار الوهم فهوى وقد انطفأ الفحم ، شكله( مش أصلي )، وينادي هاتِ نارة ، وكأن الجمر سيطفئ ما اشتعل في راسه من غضب وخيبة أمل .


ألشّارعُ اللُّبنانيّ (2)


ألشارع عندنا مليء بأكوام القمامة ، ومن يقتاتون منها ، كنا نظن أن الكثير من المسؤولين يقتاتون عليها لكنهم تكرموا وتركوها للمعدمين الجوعى والمسترزقين من بيع التنك وقناني الماء الفارغة وبعض الخردة ،  حتى حين ، بعد أن  منعوهم أموالهم وحقوقهم ، ولكنهم ما زالوا يفرضون الضرائب حتى على زبالتهم .ألمتعفنون ! 

و عن طوابير الخبز أمام الأفران ، يا مصطفى ، حدث ولا حَرَج  . زحمة على الأفران ، يعني زحمة سير ، وهنا تختبر أخلاق الناس ، وقد تقع حوادث سير وتموت ناس  وتحيا ناس ، ويا ألله فرجك وتتعطل المصالح لذلك قبل ان تخرج من بيتك أوصيك أن تنطلق قبل موعدك بنصف ساعة على الأقل، أو حسب وجهتك . و بالعودة إلى رغيف الخبز  فقد  زهدت فيه وتوجهت لأكل البسكويت عاملة بنصيحة "ماري أنطوانيت " أليس من العجيب أن  تجد الجاتوه والبسكويت في بلدك ولا تجد رغيف عيشك  وما يسد رمق عيالك ؟!  تناقضات لا يتسع لها مقال ولا مقام ولكنها متراكمة في أزقتنا الضيقة جداً جداً . كيف تحبُّ قهوتك مع هيل أو  بدون يا مصطفى ؟  بالمناسبة هل عندك علم إن رفعوا الدعم عن البنّ ؟! يا أخي واللهِ بكسر الهاء لا أعلم فلا تستغربْ فأنا لم أرَ طابوراً لحد الآن أمام محمصة . ربما لأن الأمر لا يهمني فأنا لست شرّيبة قهوة ، أقدمها فقط للضيوف الكرام مثلك .

وأحلى فنجان ( بن محوِّج) لأحلى مصطفى ، ويا مية أهلا وسهلا . 


ألشارع اللبناني   (3)                      


وعليكم السلام يا هلا وغلا بمصطفى . أخبرتك من يشرب قهوتنا يحن إلينا ويأنس بنا .دقائق وتكون قهوتك جاهزة ، هذه المرة سأرتشف شفة معك ، ونتجاذب أطراف الحكاية ، أنت تمسك الخيط وأنا ألفها ، لكنها طويلة قليلاً لن تكتمل معنا اليوم . طبعاً طبعاً تأتي متى تشاء تؤانس وتشرف ، ولكن إتصل قبلها حتى إن أتيتَ تجدني . 

وماذا أيضاً  ؟!  أين وصل بنا طرف الخيط ، أقصد الحديث ؟ نعم ، و محلات مقفلة وأخرى مفتوحة غارقة في الظلام تنتظر أن ينورها زبون (مقرش) في هذه الأيام الكالحة ، وواجهات مضيئةٌ جذابة تسر الناظرين من يتمنون ، ولا ينولون . يا مصطفى !  ليس عندنا عواميد إنارة في شوارعنا ،  لا ، بل يوجد ولكن لا يوجد كهرباء تضيء عواميد الإنارة ! فهمت قصدي ؟! ممم . و لدينا الكثير من الحفر والمشاريع التي يبدؤونها ولا يكملون  . 

بجانب المشاريع صيدليات مليئة بالدواء الممنوع من الصرف ، يسيح في حر هذه الأيام في مستودعات مظلمة حتى حين ، وحين تتمكن من الحصول عليه ، إنتبه للإرشادات : يحفظ الدواء في درجة حرارة أقل من ٢٥ مئوية ، وبعيداً عن متناول الأطفال ولا تتجاوز الجرعة الموصى بها ! ويا سعده من كان باستطاعته دفع اشتراك الكهرباء لتشغيل البراد ؛   ستراودك ذكريات الطفولة عن نفسك وأنت تصرف( الروشيته ) ، وقد تشعر وأنت تبتاع الدواء أنه يشتريك ! أقسم أن علبة المسكن في الشارع اللبناني المتعشق من رائحة الدواليب المحروقة  أغلى من مئة ألف( ليرة ) ؛ لم تتمخض ( الثورات) عن شيء يذكر .  معلومة مهمة للثقافة العامة : (ألويل لنا ! لبنان لا ينتج الدواء ، ولا الغذاء ولا اللباس ....)   و الصيدليات مزدحمة  بنفوس حيرى  وغصة في الحلق . أب يسأل عن حليب للرضع فيصفع إما بسعره وإما بأنه مقطوع و يغرق في حيرته يرفع نظره للسماء : " يا رب برحمتك أغثني " . تدخل كي تتداوى فتغادر أكثر مرضاً لما أصابك من الهم... 


                                     (4) 


  أرجو منك يا مصطفى ؛ وأنت على هذه الحال من الشرود أن  لا تتعثر فتقع فتغيب في قنوات الصرف الصحي التي لا بد لها أن تفيض كلما أمطرتنا السماء . يا رب! خيرك إلينا نازل وشرهم إليك صاعد !!! 

يا عزيزي ، عندنا في لبناننا الكثير من الوجع . عجوز نحيل مستلقٍ  منهك على قطعة كرتون بسطها تحت عظامه المتأوهة وحوله أكياس المحارم الورقية للبيع ، لم يجد  مكاناً في الظل فبسط رحاله في عين الشمس . ويكثر هذا المشهد ويكبر كلما ضاق شارعنا و قرض الجوع بمقاريضه . ألجوع كافر . لكنّ هذا العجوز لم يكفر ؛  ألقى كل آلامه على الأرض كي يتشربها الأسفلت الساخن ليشهد له يوم القيامة .

كان عادياً أن ترى (النَّور) المتسولات يحملن أطفالاً رضعاً تترنح رقابهم في الحر ،  يحرقني قلبي عليهم في القر كذلك ، وأتساءل هل هؤلاء سيصبحون أقوى من أبنائي حين يكبرون ؟! ولكن ما كنت أحب أن يفعل بهم هذا لأن ما اكرهه لنفسي لا أقبله لغيري . ثمّ ما ذنب الطفولة حتى تولد متسولة ؟! 


                                 (5) 


كثر الأطفال المتسولون يا مصطفى عندما كثرت الحروب وجاؤوا لاجئين ليبيتوا تحت سمائنا  ويحتموا . ولاة الأمر القُصَّرُ يرفضون أن يعيدوهم إلى ديارهم ليعمروها بعد سنوات الحرب ، كل همهم ان يختنق الشارع بجنسيات مختلفة علهم عندما يغادرون إلى سويسرا او أي( داهية) تحطم رؤوسهم  -أقصد الحاكمون بأمر المال  وملة الشيطان -  يغادرون مطمئنين أن الشارع قد اختنق بنا ومات قبل ان يصل غرفة الإنعاش .

وكما قال المشخصاتي في مسرحية ( ألزعيم ) :" يا ربّ يصحوا وما يلاقوش حد يحكموه " . 


على كلٍّ ، ألله وحده يعلم ما يحل بهم  وبنا . أحنُّ عليهم وأغض بصري حياءً من نفسي حين لا أستطيع أن أقدم شيئاً لهم سوى ابتسامة تحمل من حنان الأمهات الكثير من العطايا ، إنهم يا مصطفى قصار القامة لا يتغذون جيداً ، يقتحمون زحمة السير ليبيعوك قنينة ماء ، أو بعض المناديل الورقية وربما يأتونك بوردة حمراء ذابلة تود لو معك ما يكفي من المال لشرائها منهم ،  و علكة ساخت واهترأت تحت الشمس الحارقة التي لفحت وجوههم وأرواحهم البريئة حتى تغير لونها ولم يبقَ منها إلا عينان سارحتان في الملكوت ، تأسران القلب الحزين وتبعثان فيه الفرح الخجول . مهما فعلوا ، إنهم أطفالٌ لا ذنب لهم ! كلما نظرتُهم رأيت الوجع وويلات الحروب والضياع في دروب الحُبّ والحَبّ . 

                                   (6)   


أعرّفك. جارتنا  اللبنانية في الحي ؛ تلبس الأسود . كلهن يلبسن السواد لا أدري لماذا ؟  أعرف أمهات الشهداء أعيش بينهم ، لكن جارتي في الشارع التي تبيع المناديل البيضاء ثيابها سوداء ، أحِداداً على( وطن) أم على ما هو أعز من( الوطن )؟ لست أدري ، وأنا كذلك ألبس السواد منذ زمن ! 

لا تؤاخذني يا مصطفى إن بكيتُ ، فما أراه وأرويه يجري بحاراً من الدمع تنيرُ كل ظلمات الأنفاق المخيفة في شوارع لبنان . 


                                               (7)    


ناولني منديلاً لأمسح الملح عن وجنتيّ ، هذا الحزن يشوِّهُ كالأسيد  وهكذا يكتوي (الوطن) . آخ ، أين وصلنا يا عزيزي ؟ 

نعم ، نعم . حسناً يا  طيب القلب يا حسَنَ المحيّى .

في شوارعنا كثرت سيارات التاكسي المتهالكة يقود واحدة منها رجل سبعيني أو ثمانيني متهالك على المقود أيضاً علّه يحصّل قوت يومه وعياله فهو يحيا ببركة الله ، فشارعنا لا ضمان للشيخوخة فيه .  يستحي أن يطالبك بما لا قدرة لك به ؛  يقول :"إدفع ما تستطيع في ناس يعطونني٤٠ ألفاً وآخرون ٥٠ ." وأنت تعطيه ما فيه النصيب . والشارع اللبناني مليءٌ بالتناقضات قد ترى مثلاً من يركب  ال(هامر) وال(مفيّم) وآخر يركب (العجلة ) كما يحلو للمصريين تسميتها ، فتستعجب وتقول سبحان الله من أين لك هذا ؟ طبعا لسائق ال ( هامر ) وقد تكون حسن الظن او سليم القلب فتقول ما شاء الله تبارك الله ؛ أنت ونفسك ، أنظر إن كنت زكيتها .! 


                                  (8) 


    يا مصطفى الحديث يطول ويطول ...                             


لا تهدر الكثير من الماء فنحن نشتري الماء أيضاً ، علماً أن عندنا ثروة مائية أنهار وينابيع و مطر كثير يسوقه الله إلينا ، ومع هذا فنحن محرومون من عذوبته وحلاوته . ما ااذي تفعله لا تشرب الماء من الحنفية ، هات كأسك أملؤه من هذه القنينة . إشتريتها اليوم إنها ذات ماركة عالمية مشهورة  مكتوب عليها : ش.م.ل ، أحسنت  ؛ "شركة مساهمة لبنانية " . أما كل مواردنا فملوثة ، ولا تدري متى تنفذ الخطط الخمسية واللا المئوية التي أسمع عنها منذ أكثر من ثلاثين عاما ً . قاتلهم الله . تعال إجلس واسترح ولا تعكر خاطرك ، وهذه ياسمينة زرعتها منذ عام ، رائحتها أخاذة تأخذك إلى حلم وثير مترف .

أين اخذتك زهرة الياسمين ، يا عم ! ههههههه . قم لأكمل لك الحكاية ؛ أم أنك مللت ؟ 


هل أنت جائع ؟ لا تستحِ ! نعرف أهلك جيداً ،( ناس أوادم والله بينحطوا عالراس )  و خير الضيوف من لم يتكلف له . سأعد طعاماً من حواضر البيت . نعم ، بالتأكيد لا تقلق سنكمل حديثنا ونحن نتناول الغداء . بالمناسبة ،  أيروق لك تناول اللحم ؟ لا ؟ وأنا كذلك ولكني في مرة اتصلت باللحام ، لأطبخ لأولادي وزوجي ، قال  كيلو اللحمة فقط ب ٢٨٠ ألف ليرة .لا أخبرك  عن بحر الضحك الذي غرقت فيه عندما دوّى تصريحه في أذني ، يا للسخرية ! وأوصيك ، حبّاً في الله ، لا تشترِ الدجاج يكفيك مكعبات المرق . إنها كفيلة أن تضفي طعماً لذيذاً ، كاذباً طبعاً ، على أطباقك . أو لدي اقتراحٌ آخر ، أَوْصِ اللحام أن يحتفظ لك بالعظام حتى لا تحرم من رائحة وطعم الدسم ، شوربة حساء البقر مفيدة جداً إن كان لديك ما يكفي من الغاز لطبخها أو عليك انتظار استخراجه من البحر ، (وإنت وشوقك ) ! آاااه يا بلد ! بربك أخبرني كيف تكون غنياً لكنك تحيى حياة المعدمين ؟ هل نحن سفهاء حتى يحوزوا عنا مالنا ؟ كلا . بل نحن من حكَّمنا السفهاءَ حتى استبدوا ، وتمادوا _ سارقي مال الوقف_   وعجبي  ! 


وظلم ذوي القربى أشدُّ مضاضةً 

على المرء من وقع الحسام المهنّدِ 


                                 ألشارِعُ اللبنانيُّ يعيش بلا مشرِّع ، يا ترى تراه ضحيّةً أم جلاداً أم مزيجاً منهما ؟! أظنه مصاباً بانفصام الشخصيّة لا يعرف نفسه لبنانياً أم أنه أشياء أخرى . يا مصطفى ، إن تنتمِ إلى نفسك ينتمِ لك كلُّ الكون ويصدح لك بالموالاة وقليلٌ ما هم ، والأزمات تكشف معادن البشر وتفضح السرائر .

                                       (9) 


يا مصطفى ، ما هذا السؤال ؟ 


بالطبع نحب الحياة . إننا نكره الحرب ، وكل من روى هذه الأرض المقدسة بدمه وحارب لأجل الحق  قال أنه أحبَّ الحياة . كان جميلاً جداً وصاحب بسمة آسرة وصانع فرح وقلب يدق ويشتاق إلى رائحة الحبايب وهو يلقن سلاحه . يا مصطفى كانت دموعه تغسلُ البندقية ، وكاهله يئنُّ به الصاروخ  شوقاً لحياة بكل ألوان الكرامة والعزة والإباء والأمان ؛ لمّا جذبه النور ، علم أن حياته ستكون فداءَ حيواتنا الآتية ، عَبَرَ من النور إلى النور ، واختار أن يكون شهيداً على كل ما رويته لك وأكثر . 

تعالَ نمشي في شوارعنا ، ورغم كل البؤس الذي يلفها ويسكن فيها ، خرج من بيوتها قوم قاموا على الفقر والبؤس والذل .همُ الشهداء ثاروا وشقوا الأرض من أزقة الأحياء المتعبة ، وانظر لتراهم في كل قلب وفكر وعين . عندهم وقف الزمان وتطيب من عطرهم . ألكون يشتمُّ ريحهم مسافة سنوات ضوئية . لأجلهم نصابرُ ونرابطُ و نكمل ما بدؤوا لنبطلَ عمل النفاثات في العقد ، ونردي أعين الحاسدين برميةِ وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى " .

وهنا مربط الفرس وأصل  الحكاية ؛ نحن نريد أن تكون الكرامةُ غموسَ خبزنا ، أما هم ، فيغمسون رؤوسهم في حذاء بائعة الهوى ، المليء بأفخر أنواع الخمور والمسكرات ، فأكلوا الخامر والفطير وفجروا ومكروا ، يا عزيز والديك ، مكراً كبّاراً . وهيهات هيهات ، لن نسلمهم الأرض إلا محروقة عن آخرها ؛ نكون أو لا نكون ، نحن ومن بعدنا الطوفان .

وهنالك ترسو سفينتنا. هل أعجبك أسلوبي في الخطابة ؟ هههههه ، حسناً سأتدرب أكثر لأكون جديرة بارتقاء المنبر .

أوه يا إلهي ! لقد طلع علينا هلالُ الأولِ من محرم ! كلُّ عامٍ وأنت بخير يا مصطفى ! هل سنلتقي في العام القادم ؟! حتى نلتقي ، لن تنساني حين تراني ستعرفني حتماً ، لأن روايتي مائزة لا تنسى . سأنتظرك عند حدود الضوء لأستمع إلى حكايتك . إلى لقاء قريب ! أستودعك الله الذي لا تضيع ودائعه وفي أمان الله ورعايته . 


نسرين حرب 

1/محرَّم الحرام /1444




Share To: