ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر يا قاسم حدّاد | بقلم الأديب الفلسطيني طلعت قديح 


ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر يا قاسم حدّاد | بقلم الأديب الفلسطيني طلعت قديح



يقول الشّاعر البحريني "قاسم حدّاد" في كتابه المعنون "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" ص269-270:

"بالطبع، لا أدعو إلى عودة شعرنا، مجدداً، إلى بحور الخليل أو أوزانه أو تفاعيله، لكنني أستشعر حاجتنا لأبعد من ذلك، وأكثر عمقاً وجوهريةً. وأرى أنه ليس أمام كتابتنا الأدبية برمتها سوى الذهاب إلى الأفق الأرحب، والتأمل في جماليات اللغة العربية لاكتشاف عبقريتها الفنية التي تمثل الموسيقى فيها الجمالَ المكتنز بالأصوات البالغة الغِنى والتنوّع."


ولست أدري كيف لشاعر عربي أن يخطّ مثل هذا الكلام فيما يشبه الانقلاب على منبع الشعر العربي! 

إن استخدام كلمة "بالطبع" هي سابقة استسهال لقول قد يبدو سهلا من طرفه، لكنه قول عظيم، يحتاج لوقفة لازمة، ليس لأن "قاسم حدّاد" قاله، بل لأن هذا الأمر يندرج تحت سحب البساط من التكوين الأصيل للشعر العربي.

يبدو أن الشاعر نسيَ أو تناسى، أن الشعر العربي في مكانته ورونقه كان قبل الخليل بن أحمد الفراهيدي وبحوره وأوزانه وتفاعيله، ولم تكن تلك سوى أداة لحفظ  تراث الشعر العربي من التشظي والضعف من حالة بدأ يغلب فيه ضبابية الذوق ومحاولة التلاعب في متن الشعر، تماما كدعوة قاسم!

وإذا كان قول "قاسم حدّاد" يستند إلى التأمل والأفق الرحب، فلا أحسب ان هناك تضادًّا بين الحفاظ على جسم الشعر العربي وجماليته!

وكأن الجمال والتأمل هما خطّان ما عادا في شعرنا!

ولا أرى سببا في تقييد وحصر العبقرية الفنية بالانسلاخ من علم العروض!

أين حُكمه من العبقرية الجمالية لعنترة بن شدّاد:

ولقد ذكرتك والرماح نواهل

منّي وبيض الهند تقطر من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها

لمعت كبارق ثغرك المتبسم

وأين حُكمه من امرؤ القيس:

وَما ذَرَفَت عَيناكِ إِلّا لِتَضرِبي

بِسَهمَيكِ في أَعشارِ قَلبٍ مُقَتَّلِ

وإن كان مردّ ذلك، التطاول على الشعر العربي من الكثيرين الذين يلتحفون النثر شعرا، ففي عصرنا من الشعراء من يمسكون على رمح البحور، ولا يصوبونها إلا حين تكتمل الولادة الحقيقية التي تليق بالشعر العربي، والأسماء كثيرة ومنهم من تقاطر من مُزن شعره الشهد، وشخصيا يلفت نظري؛ 

الشاعر السوداني محمد عبد الباري:

الـذاهــبـــون أهـلَّـة وغـمـامـا 

تـركــوا شــبـابــيـك الـبـيـوت يـتـامـى

خـرجـوا ولـم يـجـد الفـراغ خـلاصه 

أبـدًا ولـم تـلد الجـبـال خـزامـى

خرجوا ولا أسـماء تحـرسهم وقـد 

كـانـت مـلامـحهـم تسـيـل هـلامـا

لا يحملون سـوى القليل من الذي 

في ضوئه نحـتـوا المـجـاز رخامـا

هـا هـم وقـد سـقـط المـكـان وراءهم 

وأمـامـهـم والـوقـت عنهم قـامـا

دخلوا القصيدة وهي تغلق نفسها 

وتجـمـعـوا فـي الـذكريـات ركـامـا


والشاعر المصري أحمد بخيت:

خُذْ طلَّةً أخرى وهبنيَ طلةْ

كي لا أموتَ.. ولا أرى رامَ الله

قلبي كما قال المسيحُ لمريمٍ

وكما لمريمَ.. حَنَّ جذعُ النخلَةْ

فلاحُ هذي الأرضِ.. عمري حنطتي

وبَذرتُ أكثرهُ.. حصدتُ أقلَّهْ

ستون موتاً بي وبعدُ مراهقٌ

شَيِّبْ سِوايَ.. فها دموعيَ طفلةْ

أنا وابن جنبيْ شاعرانِ إذا بكى

فينا الشتاء.. أضلَّني.. وأضلَّهْ


والشاعر المصري إيهاب البشبيشي:

وإذا بِمَن أَخذَتْ بِكَفِّى 

أدخلتْنى خِدرَها

حلَّتْ أمامِى شَعرَها

ورنتْ وأرختْ سِترَها

ودنتْ وصَبـَّتْ خَمرَها

وإذا برأسى قد توَسَّدَ حِجرَها

كَفٌّ على شـَـعرى

وكَفٌّ فوق صدرى 

أجتلِى أسرارَها 

ووجدتُ حين أفقتُ أنِّى

كنتُ أحضنُ عطرَها

كيف احتوتنى .. قَـبَّلتْنى ..

كيف ضمّتنى ولم 

تمسـَـسْ شفاهى ثغرَها !

وآخرون كُثر.

إذن؛ محاولة ودعوة لإعادة النظر في وجهة الشعر العربي، لكن دون بوصلة!

فالموسيقى هي سمة الشعر العربي! وكأني بـ قاسم حدّاد يريد أن يخلع الشعر العربي لباسه العربي (الثوب – الغترة - العقال) وارتداء البدلة أو الكاجوال فقط ليقال أنه لباس يذهب للأفق الأرحب دون تحجر!

وإني هنا؛ أمارس حقي في مناقشة كاتب "مشهور" وشاعر معروف، له باع طويل في الكتابة.

يقول قاسم حدّاد في كتابه ص261:

"وإذا أدركنا بأن عروض الخليل وبحوره، التي وضعها للشعر السابق، قد استنبطتْ علمَها في تقنية موسيقى الشعر، أصلاً، من روح اللغة العربية وبنيتها الصوتية، من فونيمات الحروف والكلمات والعلاقات الصائتة في البنى النحوية والصرفية، أقول، إذا أدركنا ذلك كله، فسوف يتيسر لنا التحرر من مواقفنا المسبقة."


وعلى القول السابق لقول لاحق أدرجته هنا؛ أتساءل:  كيف يمكن التخلي عن مكوّن أساسي مستمد من روح اللغة العربية وبنيتها الصوتية ...الخ!

ثم يردف قائلا في ص270:

"كذلك، لست في وارد الانتصار لنوعٍ معين في أساليب الكتابة الشعرية العربية، التي انطلقت منذ الخروج الأول عن حدود الأشكال الموروثة، ففي فضاء الكتابة الأدبية ما يسع كل التجارب الإبداعية، التي يجتهد بها الشاعر ويستحسنها القارئ."

وهنا أتساءل: أليست بحور الخليل أو أوزانه أو تفاعيله، تجربة إبداعية، فلماذا إقصاء هذه التجربة الإبداعية! ولماذا لا يُصار لهذه التجربة إتقان في الصنعة واتساع في الجماليات بما يمثل روح اللغة العربية المرنة والمطواعة للمستحدث ، وليس إلى الجهر بالترك بحجة العمق والجوهر!

ويختم قاسم حدّاد فقرته بالقول:

"يبقى علينا دائماً أن نسأل أصحابَ علم جمال الأدب أن يقولوا لنا رأياً صارماً، مفيداً، بشأن جماليات موسيقى الكتابة في الشعر العربي، رأياً يصدر عن المعرفة الكثيفة بتجربة الشعر، ما تقدم منها، وما تأخر."


ولأن الكاتب يجب أن يكوّن في إطلاقه للحديث، ضبط المفاهيم خلال الإسهام في القول، فإني لست أرى أن مصطلح "جمال الأدب" علم يرتكز على معطيات وإثباتات وتجارب ...الخ من مقتضيات إطلاق مسمى "علم"، لأن النظرة الإنسانية تختلف من مكان لمكان ومن عصر لعصر، فتسمى هذه الاجتهادات التي تصاغ لتسميتها "علم"، هي في حقيقة الأمر معارف إنسانية وفكرية، سمّها ما شئت، لكن لا تجعلها ترقى لمسمى "علم"  كالعلوم التي نعرفها.

ولأن جمال الأدب جمال غير متفق عليه، لتغير النظرة الإنسانية له، فلا يُشترط فيه النبوغ أو الدراية بمفاتيح اللغة العربية، وإن كان ذلك لازمًا، لإضفاء نوع من المهنية على العملية المتكاملة ضمن منظومة الأدب؛ ومردّ ما أقول، أن قارئًا عاديًّا أو متمكنًّا أو خلافهما، قد يكتشف ملمحًا جماليًا لكتابة لم يلتفت إليها أساتذة معروفون ببحث الجمال الأدبي!

والعلم ثابت، يمكن اكتشافه أو اختراعه، دون أن يُنتفى، بل يضاف له، وهذا ما لا أراه في مصطلح "جمال الأدب"، تمامًا كمقاييس الجمال عند المرأة، فقديمًا كان من سمات جمالها، البدانة، كبر حجم الأنف مثلاً، وهو ما انتفى بالمطلق حديثا، وأصبحت النساء تهرول نحو برامج النحافة وعمليات التجميل للجسم كله.

وهذا ما أراه في التقييم الأدبي لجمال الأدب، ومما يؤكد ما أذهب إليه" آخر فقرة في كتاب "ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر" ص292:

"لقد تنبأ (والت ويتمان) منذ بداية القرن العشرين، بزوال الحواجز بين الشعر والنثر،

وعلينا الآن،

بعد أكثر من مائة عام، التحقق من حدوث ذلك بشكل ممتاز"


ولعلي أبتسم هنا، لأن أول حاجز وضعه والت ويتمان هو التفرقة بين الشعر والنثر! 

فالشعر شعر، والنثر نثر!

وها نحن بعد أكثر من مائة عام، ما زلنا نشاهد الصراعات الفكرية بين مناصري الشعر وقرنائهم من مناصري النثر، ولن تنتهي تلك القضية، لأن انتهاءها سيعني انتهاء أحد الأطراف، وهذا ما لا يستسيغه المنظرون والتّباع.

ومما لا أستسيغه - شخصيًّا- أن يُصار إلى منظري المدرسة الغربية ليُحتكم إلى قول له، على أنه نبوءة، فلدينا من الجمع التنظيري الكثير، لأقول نحن عرب، وما كان اعتمادنا على مدارس النقد الغربية إلا قصورًا في الانتاج الأدبي، وتعاطيًا مقدّسا مع ما هو مستورد من الغرب.

لذا، فإن إغفال انتاج أمة لصالح أمة أخرى مهما علا كعبها، ليس مقبولا، ليس بهذا الشكل ولا بشكل آخر.


بقلم: طلعت قديح


Share To: