إيربن هاوس المبدأ والمأمول .. ذاكرة مؤجلة | بقلم الناقد والأديب الفلسطيني طلعت قديح 


إيربن هاوس المبدأ والمأمول .. ذاكرة مؤجلة | بقلم الناقد والأديب الفلسطيني طلعت قديح



"إيربن هاوس" رواية للكاتب الفلسطيني "طلال أبو شاويش" ؛ صدرت عن مكتبة سمير منصور، في غزة بطبعتها العربية عام2018، وطبعتها الإنجليزية عام 2021.


الكتابة عن وطن ليست كتابة رفاهية حبر أو ترف فكري يُراد له أن ينتشي بمداعبة الورق؛ هو تورط قاس في ولادة لمخاض الجمع بين النزف الحارق، وبين الرسالة المؤذية التي تحتّم على الكاتب خوض ممارسة الكتابة بشكل حقيقي، وليس مجرد تلويحة قلم.

في كثير من الأحايين يحتاج الكاتب للسرد في عملية بوح انشطاري، ولكي يُحدث هذا السرد "انطلاقة" فلا بدّ أن يبدأ النسج بقوة، كأن يؤسس للمقولة ليس كونها مقولة فقط، بل هي التعبير الحقيقي بالإيمان بهذه المقولة.

((صديقي. ما زلت مصراً على أن القاهرة هي عاصمة الزمن. روح الفن والجمال والإبداع. قلب التاريخ. وللإيجاز: هي عاصمة العالم.

ألم يقل "نابليون بونابرت" وهم ينفونه إلى سانت هيلانه" "قل لي من يحكم مصر أقل لك من يحكم العالم."

القاهرة يا صديقي هي عاصمة الله....................)).

لم تكن هذه البداية للكاتب طلال أبو شاويش سوى النسيج الحارق الذي أراد به اشعال فتيل وشحذ همة القارئ لمعرفة الدافع لهذه البداية الجاذبة.

بعد هذه الأسطر القليلة كان لا بد للكاتب أن يولي شطر حبره نحو الوطن لشقّه الجنوبي "غزة"، تلك البقعة التي تُجانب "مصر"، وما فيها من معاناة، يتحايل سكانها ليبقوا أحياء رغم أنياب الموت، وسرادقات العتمة ما بين الضيق واتساعه المؤقت.

لم يكن طلال أبو شاويش يعالج الوضع الحاصل في غزة، مع علمه أنه معروف ومشاهد لدى القاصي والداني، فالقنوات الفضائية لم تدخر جهدا في تسليط الضوء على ما يقاسيه سكان غزة من المآسي الحقيقية والمفتعلة، لكنه رغم ذلك يضغط بإصبعه على جرح قد لا يعني مجرد الكتابة عنه شيئا للآخرين، فماذا يعني وصول موكب الصديقة المدللة "الكهرباء"، وماذا يعني هروبها من أجواء منطقة ما، هذا الأمر لا يعرف قيمته إلا من حرم من الحياة الطبيعية، وها هو الكاتب يذكره وكثير من المضحكات المبكيات، كم الحياة غالية حين يركض طفل لأخذ عصفوره كتذكار حي قبل قصف منزلهم!

أن تُختصر الحياة في أسلاك شاحن الجوال ووصلات "اللاب توب"، هذا يعني أن الحياة ممكنة، لكن، حين يظل هناك أحياء!

في شطر الرواية يلصق أبو شاويش وجه القارئ في نافذة دائرية من الباطون، على مقاس الوجه تماما، ليوضح لك: هذه هي غزة عارية دون أصباغ تجميل، لشيء واحد؛ جسدها لم يعد يحتمل تلك الأصباغ!

البوابة . . . المعبر . . . النساء . . .

ذات مرة قالت لي صديقة: الشاميات جمالهن لافت - قصدت بلاد الشام - ابتسمت عبر شاشة الأزرق، وقلت: لا أعتقد أن هناك بقية من الجمال بعد 4 حروب!

وهذا المعنى كتبه أبو شاويش تماما بقوله: انظر إلى النساء. لا توجد امرأة جميلة. غريب فعلاً.

- القهر والانتظار يا صديقي يغيران تقاسيم الوجوه ويمحوان ملاح الجمال. بالضبط كما تمسح بممحاة لوحة جميلة رسمت بقلم رصاص.

كثّف الكاتب في روايته عبر تسليط الضوء بشكل أفقي على معاناة الخروج من غزة، ولا أقول السفر خارج غزة، لأن الخروج هو حدوث ولادة جديدة للشخص، وإن عاد بعد فترة وجيزة.

لذلك لم يكن السرد بتقنية الراوي العليم لدى الكاتب متوفرا ضمن خيارات متعددة، بل لأن استخدام طريقة أخرى، لن يكون بنجاعة نقل الأحداث والأفكار، ومحاولة جعلها في الإطار الحركي للحدث.

ورغم التعبير الحركي الذي رأينا، إلا أنه لم يغب الوصف الشكلي لذلك الإطار الحركي في الشطر أو العبور الأول للرواية من غزة إلى مصر ومكوثا في بريطانيا!


*البنية السردية بين الذاكرة والذكريات

أومن بأن الاستحقاق الشعوري حين يُسابق الكلمات، فإنه يفيض بشكل يقترب من توثيق الذاكرة الخصبة، والتي قد تقترب من الأشياء التي يعتبرها الساكن عزة تافهة في تفاصيلها إلا أنها في غير مكان هي شيء ثمين، ليس لأن الألم بسيط، بل لأن ما حدث ويحدث هو نتاج لون أحمر، لم يكن كذلك ولم يصل للونه إلا حين صرخ العالم خوفا من تلك الصرخات.

يبدأ الشق الآخر من الرواية بورقة، كانت الدليل للمكان المستهدف ((إيربن هاوس - شارع الحب – ويكفيلد - غرب يوركشير))، قد يكون العنوان مدغدغا للعاطفة، لكنه ليس إلا نُزلاً للاجئين من خارج بريطانيا، أو بمعنى آخر "سجن لطيف" له موعد لدخوله، وآخر للعودة إليه، ولا يسمح بخرق ذلك، وإلا فإن ذلك سيعني الطرد، وفقد حق تقديم طلب اللجوء، وبالتالي انتفاء شق الموافقة.

((URBAN HOUSE))

B-69

هو رقم الغرفة، التي أصبحت أيضا تعريفا لبطل الرواية "عاصم"، أهو إجراء متبع في السجون، أم هو إجراء لتفادي تشابه الأسماء، ..... الخ، لا يهم، المهم أن عاصم بدأ حياة مؤقتة في هذا النزل، وهدفه المرور للحياة الدائمة في بريطانيا وفقط.

أراد الكاتب أن يفتح أعيننا على مشهد المتشرد النائم في الشارع دون إقامة، ولكن بشكل آخر، عن "امرأة تجر بيدها طفلا لم يتجاوز السنوات الأربع. توسلت منه رغيفا آخر من الخبز. أجابها بفظاظة: لا أستطيع ذلك." فالقانون هو القانون، هو انكشاف الآخر بقدر نعتبره نحن "جريمة" وهم يعتبرونه "قانونا" واجب التنفيذ.

وسط هذا الجمود في هيكلية النزل، كان لزاما أن تكون هناك شخصيات تُلين القتامة الساكنة في الإيربن هاوس، فكانت "ريفال سليماني" الفتاة التونسية التي تشبه تونس الخضراء بكل أنوثتها!


*التقاء بين مكملين

إذا كانت ريفال تمثل الوجه الجميل، فإن "تيمبا" يمثل الروح النقية، وهنا عمل الكاتب على إيجاد علاقة عكسية، كتوازن بين كفتي الميزان.

الرسم والموسيقى؛ جناحا هوية "تيمبا"، ونقيضه "بشار" الفلسطيني القح، المقيم في بريطانيا، الذي لم تستطع المملكة المتحدة أن تنسيه فلسطينه، فأوجدها من خلال الفعاليات التضامنية لأطفال غزة وحشد التبرع لهم.

لم تكتمل الهمسة الرقيقة "ريفال" حتى ذهبت إلى مكان نفسي مختلف عما كان في علاقتها مع "عاصم" حتى غدا إنسانا آخر بفعل النفس الإنسانية المتحولة من القرب من المال!

لدي حلم وأغنية لأغنيها

لتساعدني على التعامل مع أي شيء

إن رأيت معجزة. قصة خيالية.

تستطيع أن تتحمل ما ستواجه في المستقبل.

حتى وإن فشلت.

إنني أؤمن بالملائكة

وفي كل ما أراه دائما هناك شيء جميل.

إنني أؤمن بالملائكة.

وحين أعرف أن الوقت صار مناسبا

سأعبر التيار

فلدي حلمي.

لدي حلم وخيال جامح

يساعدني في العبور إلى الحقيقة

وغايتي تجعله أكثر قيمة

لنواجه الظلام لا بد أن نسير قدما.

إنني أؤمن بالملائكة

وفي كل ما أراه دائما هناك شيء جميل.

وحين أعرف أن الوقت صار مناسبا

سأعبر التيار. فلدي حلم

سأعبر التيار. فلدي حلم

لدي حلم وأغنية سأغنيها.

قد تكون هذه المعزوفة التي خرجت من فم "تيمبا" هي النشيد الوطني لكل اللاجئين في العالم.

أراد الكاتب في رواية "إيربن هاوس" التنظير للمبادئ، لكن هامشه كان ضيقا، وسط الأحداث والتراكمات النفسية المثقلة.

وفي لفتة ذكية، أدار الكاتب الشخصية المرهفة "تيمبا" دكته إلى عكس ما كان يهوى، لقد انتقل من الرسم والموسيقى إلى الطلقة والبندقية نحو الشرق في تفكيره، ليس لأنه يريد ذلك، بل لأن سلطات النزل هي من أجبرته على ذلك، حين اختطفوا الأمير! وفي هذا إسقاط واضح لدور النظام الغربي في تهيئة التربة الخصبة لتلك التنظيمات العنيفة.


*حبكة تسدل ستار الرواية!

هي أسرع حبكة يمكن تصورها في رواية، مواجهة بين الشخصية الرئيسية "عاصم"، وبين القاضي وممثلي الداخلية (المانحين لحق الإقامة في بريطانيا)، كانت المرافعة الأخيرة تمثل من وجهة نظر عاصم؛ كإفراغ مخزن من بندقية بكامله مرة واحدة، كانت نتيجة ذلك: (تعلن شركة مصر للطيران عن قيام رحلتها رقم 112، المتجهة إلى القاهرة، وعلى المسافرين على هذه الطائرة التوجه نحو البوابة رقم B-69!



طلعت قديح



إيربن هاوس المبدأ والمأمول .. ذاكرة مؤجلة | بقلم الناقد والأديب الفلسطيني طلعت قديح


Share To: