حتى لا تندم | بقلم الكاتبة السودانية تسنيم عبد السيد 


حتى لا تندم | بقلم الكاتبة السودانية تسنيم عبد السيد



(براوني وير) ممرضة استرالية كتبت كتاب عميق جدًا اسمه - The top five regrets of the dying - أكثر خمسة أشياء يندم عليها من يموتون.

براوني كانت ممرضة تعمل في قسم العناية بمن هم على مشارف الموت بإحدى مشافي استراليا، عاشت تلك السنوات من حياتها العملية وهي تستمع لأمنيات موتى على قيد الحياة! أو مرضى لا أمل من شفاءهم في انتظار ساعة الرحيل، كان لبراوني شغف وفضول  لتتعرف على حياة هؤلاء وكيف عاشوا؟! وما مدى رضاءهم وسخطهم على ما تقدّم من أيامهم؟!، فأخذت تستخلص معهم العِبر وتسألهم عن تفاصيل حياتهم وكيف عاشوها؟! وما الأشياء التي لو عاد بهم الزمن لفعلوها؟! وما تلك التي ندموا على فعلها؟! فكانت اجاباتهم مفاجئة ومتقاربة بدرجة كبيرة! ما دفع الممرضة براوني لتأليف كتاب عن تجربتها، وتدوين تلك القصص التي عاشتها، ونقل الخبرة التي اكتسبتها، والحِكم والعظات التي خرجت بها من تلك التجربة إلى العالم، لعلّنا نعي الدرس ونفهم حقيقة الحياة قبل فوات الأوان.

لخصّت براوني وير تلك الحكايات المثيرة في خمس نقاط ندِم عليها أولئك الراحلون:


أولًا: ندموا على الوقت والجهد الذي هدروه في التفكير والقلق بشأن آراء الناس فيهم، تمنّوا لو ملكوا الشجاعة ليعيشوا الحياة التي يريدونها لأنفسهم لا تلك التي أرادها الآخرين لهم أو فرضها المجتمع عليهم.

لذا يتوجب علينا أن نتحرك دومًا باتجاه أنفسنا، أن نقول ونفعل ونتصرف بما يرضينا ويلبي رغباتنا، فإرضاء البشر غايةٌ لا تُدرك، وبما أنك لا تضر ولا تؤذي أحدًا فعِش كما تريد أنت وخالِف التوقعات، فلو عاش نبينا محمد صلى الله عليه وسلم كما تريد له قريش لاختلفت حياته، ولما اصفطفاه الله لرسالته ودينه، لكنه اتبع حدسه وأرضى نفسه واختار طريقًا مختلفًا لنفسه منذ البداية.


ثانيًا: ندموا على عدم التعبير عن مشاعرهم خوفًا من اغضاب الآخرين. 

وهذا الأمر برأيي يتطلب قدرًا من الشجاعة وقوة الشخصية وقدر كبير من الحكمة والذكاء، والحرص على التعبير عن مشاعرك بكل صدق وشفافية دون أن تجرح أو تسيء لأحد، وانما فقط لتُرضي نفسك وتتصالح معها دون مجاملة زائدة أو نفاق.


ثالثًا: ندم أولئك المغادرون على عدم ادراكهم أن السعادة قرار بأيديهم، فأجّلوا سعادتهم.

فلنعلم جميعًا أن لا أحد على وجه هذه الأرض يملك من أمرنا شيء لا سعادة ولا غيرها، فهذه حياتك وبوصلتها بيدك أنت من تحركها باتجاه ما يسعدك أو يشقيك، فالقرار قرارك والكرة بملعبك.


رابعًا: ندموا على ضياع العمر في اللهث وراء لقمة العيش.

قد يرى البعض أنه أمر بديهي وليس فيه ما يدعو للندم، لأن كسب المال مهم لضمان حياة سهلة وممتعة، لكن الندم على أمر كهذا فيه رسالة عظيمة بأن المال وحده لا يصنع سعادة، وإنما مشاركة اللحظات البسيطة وقضاء مزيد من الوقت مع الأهل والأحباب وصنع ذكريات جميلة أهم وأدعى لجلب السعادة والراحة والطمأنينة.


خامسًا: ندم أولئك النازلون من قطار الحياة على عدم امتلاك الشجاعة لأخذ المغامرات وملاحقة الأحلام.

أجد في هذه النقطة تحديدًا رسالة عظيمة، خاصةً للآباء والأمهات الذين يُتفهون من أحلام الأبناء، فإذا كان طموح أحدهم أن يصبح لاعبًا أو فنانًا أو رسّامًا أو ما شابه، قامت الدنيا ولم تقعد! فمن الذي زرع في نفوس كثير من البشر في مجتمعاتنا هذه أن الطموح والنجاح يتمثل في الطب أو الهندسة وما دونهما دُون!


الغريب في أمر هذه التجارب والقصص العظيمة، أن أولئك المغادرون لم يندموا على عدم امتلاك سيارة فارهة أو منزل فاخر أو مال أو شهرة، وإنما اتفقوا جميعًا على أن الحياة بسيطة، ونحن من نعقِّدها ونأخذها على محمل الجد حد الرهق والعناء، ونضع قواعدًا للنجاح ومعاييرًا للجمال ومقاييسًا للفرح، حتى حسبنا السعادة غاية بعيدة وصعبة المنال وبتنا نلهث وراءها دون توقف حتى لالتقاط الأنفاس، ونسيّنا أنها أقرب إلينا من حبل الوريد! بل نابعة من دواخلنا وقرارها بأيدينا وليست هبة أو منحة نستجديها من غيرنا! كأنهم أرادوا أن يقولوا في وداعهم الآخير: ما أبسطنا وما أصعب كل شيء.


كل تلك النقاط لخصّها (فيكتور هوجو) في آخر سطر من روايته (البؤساء) حين قال: " الموت ليس شيئًا.. الشيء الرهيب هو أن لا نعيش".


أخيرًا:

ما تزال أمامنا فرصة لنعيش الحياة على حقيقتها، ببساطتها وجمالها، أن لا نرهق أرواحنا ونحملها ما لا تُطيق، نستبدل الهم بالرضا ونستقبل الهزائم بابتسامة ونتغاضى ونتغافل ونبذل الخير لكلِ الناس فإن صادف أهله فهم أهله وإلّا فنحن أهله.

وختامًا: 

أردد ما قاله الفيلسوف الفرنسي ميشيل ديمونتن: أن تكون سفيرًا أو رئيسًا ليست أفعال لامعة بحق! لكن أن تضحك، أن تبيع وتشتري، أن تحب وتكره، أن تعيش في سلام ورفق وصدق مع نفسك ومع الآخرين، فهذا أكثر تميزًا وندرةً وصعوبة.




Share To: