قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي


قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي


القاعة 3 من مقر اقامة الفنانين المطافئ .


ما الفن سوى مرآة عاكسة ، بهذه الجملة يمكن أن ننطلق في فك شفرات التوجه الفني الذي تتبناه الفنانة هنا السعدي ، وهي فنانة متعددة الاختصاصات حاصلة على شهادة الماجستير في الفنون الجميلة في النحت من كلية رود آيلاند للتصميم. في البداية لن تبذل جهدا كبيراً في معرفة الرابط بين لوحاتها الفنية في هذا المعرض الذي تحتضنه القاعة 3 من مقر اقامة الفنانين بالمطافئ ، اذا صرحت ان المعرض يسلط الضوء على فترة طفولتها في بيئة محافظة تسودها العادات والتقاليد وتتحكم فيها التابوهات العائلية و الاجتماعية التي ترفضها .

ربما اول ما يجب ان نقر به هي قدرتها على التمرد والتجاوز من خلال الفعل في حد ذاته ، فقدرة هذه المرأة على اتباع طريق الفن وانتهاجه طريقا اكاديميا ومنهج حياة هو تجاوز وتمرد بالضرورة، اذا ما علمنا البيئة المحافظة التي تنحدر منها، فأن تكون فنانا لابد ان تتميز بقدر عال من الجرأة والفهم العميق لرفض واقع ما. لذا الاشادة بالتجاوز تظهر اولا من خلال ولوجها هذا العالم من الاساس، خاصة وهي نتاج تنشئة تقليدية.

من هنا يمكن ان نتبين قدرة الفنانة على التمرد من خلال لوحاتها او منحوتاتها في هذا المعرض، فرغم صغر هذا الاخير إلا انه بدا كافيا لإبراز عدة جوانب من تصورها الفني.

البداية بلوحة كبيرة نوعا ما قائمة على مبدأ التناظر والتقابل ،صورة لخيمة بدوية وستارها الذي يحجب ما بداخلها ،هذا الستار الذي اسدل كليا في النصف الأول من الصورة انعكس في نصفها الآخر مفتوحاً مشرعا كاشفا ما وراءه ، وهنا تتجلى اولى مقاربات التجاوز والرفض التي قام عليها هذا المعرض. فما يحجب الحقيقة في نظرها سوى ستار من النظم و التقاليد وما العقل التقليدي سوى خيمة اسدل ستارها ، لذلك لم تتأخر العارضة في كشف الغطاء عليه في النصف الثاني بما يحمله هذا الفعل من انعتاق وتوق للحرية المنشودة و الانفتاح على عالم خارجي تنيره الحقيقة على عكس الظلام الذي يحجب كينونة البشر.

صورة الة الخياطة التي تأتي مباشرة بعد صورة الخيمة ،وهي لئن بدت لا رابط بينهما ظاهريا إلا أن اللوحتان على قدر كبير من التكامل الفني والفكري في ما أرى. هذه الالة لها بعدين اساسين. اولا ،ما تحمله الة الخياطة في الموروث العربي من سلطة على "امرأة البيت" التي لابد لها ان تتقن حرفة الخياطة كجزء من تربيتها و اعدادها حتى تكون زوجة المستقبل الصالحة ، ثانيا لأن هذه الالة تضاهي العقل البشري في ترجمته لكل فعل أو أمر ،فآلة الخياطة لا تنتج بالضرورة إلا ما يمليه عليها الفكر ،فهي الالة نفسها التي تنتج الستار المنغلق تماما وهي أيضاً من تنتج ذلك الخيط أو الشريط الذي به نرفع الستار ،فالعقل البشري تماما كآلة الخياطة له ان يسدل ستار الجهل أو أن ينفتح بالعلم والمعرفة ، فالعقل نفسه وعاء الجهل والمعرفة على حد السواء "وما للإنسان إلا ما سعى".

أما المنحوتة التي توسطت القاعة على شكل كعكة مرطبات كبيرة  مشكلة من عدة كعكات صغيرة هي في اعتقادي ارفع درجات التمرد والتجاوز التي وصلت إليها الفنانة ، اولا لطبيعة الكعكة الهشة وما تعكسه من هشاشة جبلت عليها المرأة اذا ما التفتنا إليها ككائن مشاعر بامتياز، هذه الهشاشة التي لم ترض الفنانة استمرارها وجعلت في تراكمها صلابة واتحاد ،فلئن ظهرت إحدى الكعكات متشضية إلا انها بدت متماسكة بأخريات واكتسبت وجودها منهن ،وكذلك المرأة التي تراكم التجارب وتخلق من ضعفها قوة لا يستهان بها .

ثانيا، تتجلى الجرأة في اقصى درجاتها اذا ما نظرنا الى الكعكة المتشضية على انها بكارة المرأة وعذريتها وما يكتنفها من تابوهات كطبيعة بشرية لا تعدو ان تكون فعلا طبيعيا لا ينقص من المرأة في اكتمالها مثقال ذرة و لا يعيبها ،بل منه تكون أول عمليات الخلق والنشأة الاولى للمخلوقات ، فتلك الكعكة المنقسمة -اي المرأة بعد البكارة – لا يمنعها من ان تكون كعكة كاملة متكاملة ، ان تكون امرأة وما تلك الا خصوصية تميزها على الرجل ولا تفاضله عليها. هذه المنحوتة جاءت في نظري كنتاج أو استخلاص لصورة "باربي" التي رسمت على هيئة عروس حزينة رغم شرائط الفرح الخارجي التي تناثرت ،... وعمقت الشمعة التي توسطت اللوحة هذا الشعور بالحزن والقهر والضيم خاصة اذا ما امعنا النظر في رمزية مكان لهيب الشمعة الذي غطى فم العروسة ،اي ان مجرد الكلام أو التعبير كان نارا حارقة وليس مسموحا أمام ما تمليه العادات والتقاليد و الاعراف.

الصورة الأخيرة التي اختتمت بها العارضة معرضها كانت في اعتقادي على قدر ما التعبيرية والقصدية ، ستاران من القماش الناعم قد مزقتهما ايادي انثوية . ستار أول أحمر اللون شديد البريق قد غرزت فيه يدان ناعمتان وتشبثتا به وستار ثان خفت لونه وظهرت آثار التمزق عليه أكثر فأكثر وقد بدت اليدان اكثر تجعدا .فما الستاران سوى الحياة بداية ونهاية . لا يمكن للمرأة أن تتحرر من قيودها إلا اذا غرزت اضفارها وتمسكت بحلمها في الانعتاق حتى النهاية وان كلفها ذلك نظارتها.

نجحت الفنانة في نظري إلى حد كبير في رسم صورتها العنيدة المتمردة منذ طفولتها حتى بلغت مثل هذه المرتبة من الإبداع والحس الفني. أرجو ان أكون قد لامست في هذه القراءة الفلسفة التي تبنتها العارضة في تصميم معرضها وما هذه إلا قراءة محتملة من عدة قراءات.



قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي

قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي

قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي

قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي

قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي

قراءة فنية في معرض الفنانة هنا السعدي بقلم الكاتب التونسي عبدالرزاق بن علي


Share To: