ورقة نقدية لديوان "غبار القيامة" للشاعر التونسي علي بن فضيلة بقلم الكاتب عبدالرزاق بن علي

ورقة نقدية لديوان "غبار القيامة" للشاعر التونسي علي بن فضيلة بقلم الكاتب عبدالرزاق بن علي.



كتب علي بن فضيلة ديوانه الأول بلهجة تونسية فأبدع في رسم اختلاجات نفسه وعانق أفق الإبداع رغم تحفظ البعض عن الكتابة باللهجة العامية وذلك ما نرجعه للأذواق دون مصادرة لرأيهم ، فلا وصاية على ناقد والكل يحكم حسب ما يراه هو فقط . هذه المرة يفاجئنا الشاعر مرة أخرى مفاجئة تفوق أثر ديوانه السابق حين ينشر ديوانه الثاني "غبار القيامة" الصادر سنة 2022 عن دار وشمة للنشر والتوزيع بتونس، المفاجأة اذا هي أن الديون قد كتب بلسان عربي فصيح وبلغة تقترب اكثر ما يمكن من لغة النصوص الاولى في الشعر العربي، غزارة في المعجم وقدرة على التشكيل و الرسم صورا واستعارات على قدر من الحرفية والتمكن، تناص وإلغاز وتوظيف فريد للموروث المادي و اللامادي.

· العنوان "غبار القيامة"

العنوان لا يخلو من إلغاز وإبهام يجبرك على استحضار كل معارفك حتى تفك شفرته من خلال قراءة متن الكتاب. عنوان على قدر من البلاغة، إذا اخذنا كل كلمة على حداها لوجدنا ان دالها ومدلولها على رأي "سوسير" واضحان لا لبس فيهما، أما عن الغرابة فهي عن الجمع بين المفهوم المادي الدنيوي المعلوم وبين المفهوم الأخروي المجهول لا أحد يعلم كنهه بالتدقيق، رغم التسليم به عند السواد الاعظم انه واقع لا محالة .

جاء العنوان مركبا اضافيا اضيف فيه مصطلح الغبار الى مصطلح القيامة ،فأصبح الدنيوي جزءا من الأخروي وكأن الشاعر ادرك عكس الجميع تصورا ماديا ليوم مجرد. الغبار هو نتيجة الحركة المفرطة أو الاضطراب القوي، أي أن الغبار لن يثار من تلقاء نفسه بل لابد من فعل قبلي يسبق قيامه. الغبار هو أمر نهايات ونتيجة لتحرك الساكن، هو نهاية الاضطراب و العاصفة... هذا المعنى تجد له تماهيا مع مفهوم القيامة كنهاية للرحلة بمفهومها الأيديولوجي وبداية مرحلة اخرى غير معلومة، وكأن قيام القيامة يسبقه غبارها و صراعاتها الضارية التي تؤشر لها .هذا العنوان يوحي لنا عن تواتر وتكرار لمفهوم النهاية في الديوان، اذ وان تقرأ المؤلف سترى الحضور المكثف للموت والنفس الجنائزي في معظم القصائد.

· مصطلح النهاية في ديوان غبار القيامة:

وانت تسافر عبر قصائد الديوان تلاحظ هيمنة مطلقة لمفهوم النهاية و الانقضاء. إن الخيط الرفيع الذي نسج به الشاعر مؤلفه وترجمه بنجاح اختياره لعنوان ذي بعد زمكاني (الغبار ايحاء على المكان وخصوصيته – القيامة ايحاء انقضاء الزمن المادي )

لن يكون عصيا على القارئ ان يلاحظ الحضور المكثف لمعجم الموت إذ انتشرت على امتداد الديوان كلمات من قبيل " موت، نعش، قبر، رحيل، موتى، الاشلاء، الاموات، الوداع، جماجم،..." وتكررت اكثر من ست وعشرين ومائة مرة على كامل الكتاب. هذا البعد الجنائزي و إن دل على شيء فهو انعكاس لذات الشاعر المتألمة المرهقة بقضايا اليومي و إرهاصات الواقع. بدا الشاعر شاعرا بآلامه حد التماهي ومهووسا بقضايا بلده وقضايا بني جنسه حد الوجع ولعل الموضوعات التي شكل بها قصائده ترجمان للمعجم الذي ارتآه. فاجعة موت الوالدين والاحبة ،اغتيال الحلم والفكرة ( قصائد للأب وللأم ، حضور ضحية الفكر ،شكري...) هذه المشهدية الجنائزية وهذا العبث الوجودي الذي ارق الشاعر وألهمه لاستحضار التاريخ مناجيا أو مستنجدا أو شاكيا إليه أمور العباد والبلاد اذ قال مثلا في قصيدة "هامان" :

"يا هامان

لم يبق على سيرة آدم

سوى فخاخ الغواية."

ويقول في مرحلة لاحقة من نفس القصيد مواصلا تظلمه:

"الغربان يا هامان



تعلمت القتل منا ."

رغم هذا التوجه الكبير للتاريخ إلا أن ذلك لا يعني ان الشاعر يعيش خارج الإطار، بل هو في عمق واقعه يحيا وما ذلك الرجوع أو اللجوء إلا لهوسه في البحث عن مخارج وحلول لواقع أثقل عليه. ارتبطت حل موضوعاته بنفس حزين وآلام شديدة ، كحضور الأم الراحلة في صورة سريالية تخييلية رسمها الكاتب بأبداع يلامس المشهدية الواقعية ، رغم رحيلها يراها "توزع الحلوى على الموتى" و قد صار هو دونها "شيخا في الاربعين" .

تناول الادب العربي والعالمي صورة المرأة والوطن على نطاق واسع منذ القدم وليس ذلك بتجديد أتى به علي بن فضيلة ،لكن ذلك لم يمنعه من طرافة الطرح والتصوير في قصيدته "حي على الوطن" ففي حبه للوطن حب لامه حتى صار التماهي بين المحبوبتين يطغى على كل القصيدة:

"كيف أنجو من هواك

وأنا ثمل منذ ولادتي

اقف على كفي أمي"

هذا البعد الوطني العميق تترجم من خلال دعواته الملحة للعودة لأحضان الوطن/الأم :

"اصرخ في ابناء الله

حي على الحياة

حي على هذا الوطن."

ما اسم الإشارة "هذا" إلا دليلا قاطعا على القصدية والادراك التام عن اي وطن يتحدث ،ان هذا الوطن للجميع.

ربما هيمنة المعجم الحزين والطابع الجنائزي في الديوان يحجب عنا حقيقة أخرى ليست بالهينة حضورا وان كان ذلك حضورا على غير الشاكلة التي بها يكون في الشعر خاصة .

· صورة الحب في الديوان:

لم يغب الحب و لا الشاعرية عن قصائد علي بن فضيلة بل جاء ذلك على شكل مختلف بعيد كل البعد عن الرومنطيقيات المتعارف عليها وليس ثوبا درويشيا جليا. حب لا ينفصل عن الواقع، بل لن يكون للحب معنى ولا قيمة إن كان سفرا تخييليا نفسياً يسافر بالذات الشاعرة بعيدا عن الواقع وهموم الانسان عموما. الحب عنده جزء لا يتجزأ من الوجود وما قصائده المؤلمة سوى دعوة صريحة للحب والتعايش وقبول الاختلاف على أرض الله التي مزقتها الفرقة وغزاها الحقد والكراهية، دعوة الى الايمان ان الأرض اورثها الله للجميع ولم يختص بها فئة من عباده وجعل العقاب والصفح سمته العليا التي لا يشاركه فيها مخلوق. لا فرق عند الشاعر بين حب الوطن وآلام والاب والحبيبة والخلان، فالحب مفهوم شامل كلي متكامل ،بل لا يكتمل إلا اذا شمل الجميع. فلا حبيبة بلا وطن ، ولا امومة اذا فقد الوطن، ولا خلان اذا غدر بالوطن... وما قصيدة "حبات الياسمين" إلا تجسيدا للبعد الشمولي لمفهوم الحب.

"وأنا احتسي شفتيك على مهل

...

وضعت ساقا على وجع واصغيت الى جلستي

الحقيقة تمرغ وجه المدينة بالعتمة

القتلى يحملون قبورهم ويمرون مني "

في النهاية نقول أن الشاعر قد لامس أفق الإبداع في هذا الديوان ورسم لنفسه منهجا واسلوبا خاصا به، وما هذا الشجن الذي التمسناه في الديوان إلا تعبيرا عن فرط حساسية الكاتب و تجسيدا لهمومه التي لا يضجر من حملها بل منها يستمد طاقته لمواصلة دعواته للحب وللحياة. ديوان يستحق التناول والدرس وما هذه الورقة النقدية سوى رؤية من كثير من الرؤى…


Share To: