فلسفة الألوان ومآرب أخرى في ديوان ( لحن بأصابع مبتورة ) للشاعرة سميرة عبيد | بقلم الأديب المصري محمد فؤاد محمد


فلسفة الألوان ومآرب أخرى في ديوان ( لحن بأصابع مبتورة ) للشاعرة سميرة عبيد | بقلم الأديب المصري محمد فؤاد محمد


الشاعرة سميرة عبيد شاعرة قطرية متميزة نشطة أثرت الحركة الأدبية بدولة قطر بإنتاجها الغزير ونشاطها المتميز ودواوينها الشعرية وسفرياتها الأدبية في معظم الدول العربية فعلى مستوى الإبداع قدمت للحياة الأدبية  خمس مجموعات شعرية هي : ( أساور البنفسج ) آكد للترجمة والنشر لندن /القاهرة 2013م (ولحن بأصابع مبتورة ) فضاءات للنشر والتوزيع عمان 2015م و ديوان ( شجرة في جذع غيمة) مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر القاهرة 2015م  وديوان ( كأنَّه صوتي ) منشورات ضفاف البيروتية 2016م . والديوان الذي بين أيدينا هو ( لحن بأصابع مبتورة ) وقد راق لي أن أتحدث عن فلسفة الألوان في الديوان حيث تكررت كثيراً مما دفعني لترصدها وتتبعها في الديوان   لتكون أساس نظري في هذه المجموعة كما لم أغفل بعض الجزئيات الأخرى المتفرقة  التي استرعت انتباهي في الديوان  الذي تبلغ عدد صفحاته 102 صفحة من القطع المتوسط واحتوى على ثمان عشرة قصيدة متنوعة الطرح  تنوع ثقافة الشاعرة التي جال خيالها في ابتكار عناوين مدهشة للقصائد مابين المعنوي والوقعي وبين التاريخ والجغرافيا وتنوعت العناوين حتى استوعبت أسماء بلدان  ومدن "سوريا "بغداد" ونيل مصر و"المورسكي " آخر حصون الأندلس وكذلك مما يدلل على سعة اطلاع الشاعرة وثقافاتها المتنوعة  والنصوص التي نقلتها لتفتتح بها قصائد الديوان تدل على ذلك أيضاً فقد افتتحت  بعض القصائد بأسماء مثل : "فرناندوبيسو" ، "أندريه بروتون" ،فريد الدين العطار "، "محمود درويش " "أنسي الحاج "،" رابيندرانات طاغور" ..

وبعد هذا الاستطراد الذي ألقى بظلاله على عنوان  مقالتي التي أردت كتابتها وهي "فلسفة الألوان .." في ديوان الشاعرة سميرة  وأول قصيدة "بورتريه لآخر العنقود"1  القصيدة كتبتها لابنتها "بدرية" وقد نسجت الشاعرة على كل حرف من اسم ابنتها مقطعاً شعرياً فعن حرف الراء  جاء  قولها " رقصة الخيمة وارفة الظلال تبتسم للعابرين في مواسم البنفسج " فهنا نقف أمام صورة صورة شعرية ضاحكة مستبشرة صبوحة مبتسمة في موسم البنفسج  وعبارة مواسم  البنفسج تبهرنا بمنظر جميل عجيب فالبنفسج يتشكل من عدة ألوان كما ينبعث من العبارة عبق البنفسج وهكذا لكل حرف من أحرف اسم ابنتها له تشكيله الخاص به الذي يصب في شغف الشاعرة بآخر العنقود أما قصيدة "نوتة"2  فتبدوالقصيدة كأنّها كرنفال ألوان فيها الأخضر والأزرق والبنفسجي   وتنتشر في القصيدة  روائحة العطر كما تنبعث الموسيقى في جو خلاب وتصوير شعري رائع يكشف عن تنوع ميول ومواهب الشاعرة وقدراتها إذ تقول الشاعرة " دمعة تحكي لون الأخضر في صخب البحر لون بحر أزرق لدمي بين روحي وقلبي " ثم تسترسل لتضفي على الألوان عبقاً من البنفسج " هذا المهد المستوحش حالماً بعين البنفسج في جذور الهمس يضيق العطر في النحر " وننتقل من الدمعة التي تحكي لون الأخضر إلى جنون الأخضر  حيث تقول في قصيدتة " جنون" 3 "جنون الأخضر رائحة الموج عبق الصباح  صمت الوجود أي لون تعشقه أيها المتموج فيَ ؟أي عطر يرويك ؟ وهنا تقف الشاعرة بين نزق الأخضر وجنونه وبين رائحة الموج و عبق الصباح ولولا أن الشعر هو لغة المدهش واللامعقول لقلنا  جنون الموج ورائحة الأخضر ولكن الشاعرة جعلت للموج رائحة وللأخضر جنوناً وللصباح  عبق ثم تنهي جملتها الشعرية بالسؤال الذي له مابعده  من قاموس الشاعرة ذات الصور المتموجة المدهشة  المعطرة  وكما أن للأخضر جنونه فإن للعبق جنون وللبنفسج جنون عند الشاعرة " انتظرني لبقية العمر أنا عبق جنون "وقولها "جنون بنفسجة يفتك بها البحر " وتتقاطع الألوان مع العطور هنا في قول الشاعرة " وجوه قزحية تحدق في طقطقة حذاء أسود يرتبك لجلبة العين بين طاولات الأمس ..نظارات تستنشق عبق عدسات عطري من بعيد فللنظارات هنا أنوف تستنشق العبق ولأن القصيدة عنواها "جنون" فتفاجئنا الشاعرة بصورة مدهشة حدَّ الجنون بل هو جنون مارق "دقت أجراس الكون في شفتيّ هذا الجنون المارق  يهدهد أجنحة الغياب " تصور معي أنَّ الجنون يهدهد أجنحة الغياب حقاً إنَّه جنون مارق .. ولا تزال الألوان في القصيدة متنوعة "شريدة تزهر غيمة فراشة  ..نصف العبارة .. والكأس فارغ هذا المساء "  والشاعرة في في هذه القصيدة تتماس مع الشعراء  " السياب "  والفيتوري  ومع الشاعر الفرنسي " بودلير" في "أزهار الشر" فتقول " مطر السياب  ..شمس الفيتوري  طائر الفينيق ..تطل من مراياك يابورخيس  زجاج القصيدة يتبخر من لظى حرفك  وأنت في قمة الرؤيا .. أحرس أزهارك يا بودلير في الحلم  لا أعرف متى تداهمني فصول القبح .. كي تزهر الحياة ؟ "4

و في في قصيدتها القصيرة " صورة " 5 "أترقب طيفاً هارباً من أحمر شفاه  يبتلع عزلة شمس  .. ريق رمل يتعرى حالماً بملوحة بحر يبتل بالنور .. أنا شعرة بيضاء .. تدور معها زوابع الصحراء  .. من أقصى الروح إلى أقصى الظمأ  بحثاً عن خيمة لدم الواحة " وتنتقل من لون أحر الشفاه الصارخ للون بارز الظهور مسيطر أيضاً هو الأخضر " أخضرُّ في قارورة النخلة اليابسة  .. أـجرع مجرى  الماء في سرداب الزمن  أغني لإيروس " شعرة بيضاء رمز للهرم تناسب النخلة اليابسة إلأ أن اللون الأخضر يجدد الأمل والنماء والاخضرار

ومن" الصورة " إلى " يد رجل ينام في قلب الصورة " 6 هكذا عنوان القصيدةـ  يباغتنا " الزمن الرمادي " و" رائحة الانتظار " و "الروائح المعشوشبة " و "عطر واحد لايكفي " وتتنوع عطور الشاعرة للحد الذي تتعطر فيه  بنجميات الألم كما في قصيدة  "قناع" 7 " أرتدي حزني بداخلي .. أتعطر بنجيمات الألم "  وفيما مر بنا من نصوص نرى الشاعرة تجنح في مجازها لحد الدهشة والإبداع والعمق وما أجمل الرحيق حين يكون رحيق الوطن كما جاء في قصيدة " قطر التاريخ  "8 "أتشبث برحيق ماتبقى من وطني " وكثيرًا مانرى الألوان تتشابك متناغمة كما ورد في قصيدة " إبرة " 9"تهاب العزلة مصلًا بنفسجيًا ضوء خافت  يرش حمرة صفراء على ملاءة سرير غرفة بيضاء تزقزق ستائرها  لي خلسة بالأخضر: أنا من هجرها النهار  وصرت ليلًا تحتضر فيه عجلات  صغيرة سوداء ترقص على صرير  حرارة  تقوض ألوان الصمت "  .. " تحمر يد الممرضة الفاتنة  خجلًا  من فتاة كنت أشبهها في النهار"  حتى حمرة الخجل شملها ديوان الشاعرة  وختام القصيدة لون  فقد ختمتها باللون الأبيض لكنه موحش  " ومن مساحة البياض الموحش أراقبني وأنادي سرًا شاهدتي "  وتفتتح الشاعرة قصيدتها "جميرا " ب " كأس شاي منعنع /بأظافر برية / تهدهد أغصان قلب أخضر " فاللون والرائحة لايفترقان إلا قليلاً عند الشاعرة لكن سرعان ماينقلب نعناع الشاي إلأى دخان يتطاير ويتصاعد من السفينة " تيتانيك " وتبقى غريبة ترتشف ما تبقى من الشاي على حد تعبيرها

وإذا كانت الألوان آسرة ولها حضورها في الديوان فكيف إذا كانت عنواناً لقصيدة  " بنفسجة بغداد"  فنقرأ هذا المقطع المطرز بالألوان  الذي يتخلله رموز فرعونية  وكأنها زركشات الفراعنة " فيك افجر بنفسجتي  / كي تنعمي بشمس أبينا رع / إليك يابغداد أصابعي / لتعزفي لأطفالنا غداً أخضرا / سأرويك بدمي لنروض هذا الجرح  .... غداً ستمطر سحابتنا بنفسجة / لنحلق من جديد في سماء تشبه أحلامنا  /  نراقص الرياح المغدورة / ندعوها لتحيا من جديد في حديقتنا  زهراً / كي تنعم بالربيع " وكلمة الربيع هنا كلمة مكتظة بالألوان المتنوعة  والجو المنعش والرائحة الجميلة  

ومن بغداد للنيل ففي قصيدة " هواء النيل "12 يتطاير العطر واللون ويصبح للعطر ذاكرة وذكريات :

" للنيل ذاكرة العطر/حكاية طيور البجع / تغمرني في اللحظة " ومن يرد النيل لابد أن يعرج بقلبه قبل قدمه حيث الأزهر الشريف والسيدة زينب  حيث الأصالة والتاريخ والعلم والحضارة والهداية "مجازات جامع الأزهر والسيدة زينب هو عبق الخشوع" فللخشوع عبق  و هنا نشمُّ عبق الخشوع بوجداننا  كما نشمُّ بأرنبة أنوفنا روائح الفل والورد من بائعة الفلّ " أيها العابر في زحمة الأشواق/ تذكر كم كان السفر جنوناً/وكم كان خبر بائعة الفل / وردا / تلك الرائحة تستبطنها  أرنبة أنفي "  ومازلنا مع الفلِّ والورد والرياحين بألوانها ومتعتها ففي قصيدة "زهرة"13 نشاهد الحدائق مجنونة برائحتها " أيها البحر العالق بيني وبين زهرة الليل / تجولت في جنون حديقتك" وتناغم الألوان يزداد ألقاًعندما تلامسه الطفولة البرئة في قصيدة " وجدان "14

روض من الحب بالأزهار مزدان    أهكذا أنت في الأرواح وجدانُ

يامهجة القلب مامرت بنا سنة   إلا وفاح بروحي منك ريحانُ

وهكذا تستطرد الشاعرة في قصيدة رقيقة وتصف مشاعرها وحبها :

"أنا أحبك مذ أشرقت ناضرة   وغصنك الغض في في الأفياء فينان

فاستفسري القلب عن شوقي وعاطفتي  يخبرك عن جمرة الأشواق شريان

ها أنت في الفرحة الكيرى بنفسجتي   على جنينك إكليل وتيجان

وقبل أن نغادر الديوان نرى الشاعرة تحتفي وتهتم برموز الأدب  والفكر العربي والعالمي وكذلك البلدان العربية والإسلامية وقضاياها متواجدة بقوة عند الشاعرة  : قطر وطنها ’ ونيل مصر وأزهرها , بغداد ’ جبل قيسيون , الأندلس  فعن الأندلس جاءت قصيدتها " المورسكي " 15:  

مرَّ طارق من هنا / خلف باب السفينة / من أحرق ملوحة البحر؟ / من أهدى فينوس قلبه ولعاً بمرايا المتوسط ؟  / يذوب التاريخ  وتحكي أندلس حزنها / أين من لايهابون المستحيل ؟ أولئك الذين شيدوا بطولاتهم / في قصر الحمراء/ أولئك الذين زرعوا أشجار الكولونيا في الزهراء  أين ابن زيدون ولسان الدين الخطيب ؟ / حضارة الماء والعشب أحرقتني  وأنا أستعيد حرقة المورسكي " وتظل الشاعرة في حرقتها على الفردوس المفقود وعلى حضارة ظلت قروناً تزخر بحكايات الأشعلر والأدب والموسيقى والحدائق وتظل ّ تذكر مدنها ومعالمها المحفورة في وشم الذاكرة مثل : غرناطة وقرطبة وأشبيلية  والشاعرة لا تتخلى عن الأمل رغم آلام الماضي الحزين فتختتم قصيدتها بالتطلع لعودة أمجاد الماضي وحضارته هناك  " أـوق لشمسك الذهبية على حديقة العمر  متى ترجعين إلى حظوة العرب وتشرقين في وجه من سلبوك الحضارة   ’ كي تعودي إلى سواعد الرجال فلتحي أيها المورسكي في قلبي مادام القلب يخضر في عروبته المنسية "

وهكذا  تستدرجنا الشاعرة من ظاهرة الألوان إلى غيرها  فأرانا قد زلفنا لمآرب أخرى

ولإبداعتها الجميلة الجادة

محمد فؤاد محمد

هوامش : 

1ـ قصيدة بروتريه لآخر العنقود  ص 11

2ـقصيدة نوتة ص 15

3ـ قصيدة جنون ص 19

4ـ قصيدة جنون ص 25

5ـ قصيدة ص 27

6ـ  يد رجل ينام في قلب  الصورة ص31

7ـ قصيدة قناع ص 35

8ـ قصيدة قطر التاريخ

9ـ قصيدة إبرة ص 39

10ـ قصيدة جميرا ص 47

11ـ قصيدة بنفسجة بغداد ص 51 

12ـ قصيدة هواء النيل ص 57

13ـ قصيدة زهرة ص 63

14ـ قصيدة وجدان ص67

15ـ قصيدة المورسكي ص 91




Share To: