الحكم على الآخر وسوء الظن.. | بقلم الكاتب والشاعر المصري حسين صلاح حسين 


الحكم على الآخر وسوء الظن.. | بقلم الكاتب والشاعر المصري حسين صلاح حسين



استوقفتني بعض العيون؛ وأنا أراها تنظر وتحكم على الأشخاص من مظاهرهم، وأحد الأصدقاء الذي يندم ويعنف نفسه كثيراً أنه كان يحكم على الآخر من مظهره وهيئته دون معاملة أو اختلاط، وهذا الشخص الذي ينظر لي بطريقة غريبة كأني قد قتلت له قتيل أو أذنبت في حقه أو شيء من هذا القبيل، وأيضا أحد الأشخاص الذي رأيت في عينيه شيء غريب تجاهي، مر الوقت ومر.. وحدثني بعض الدقائق التي تعد على الأصابع، وبعد هذا اللقاء تلاقت الوجوه مرة أخرى، وفي وسط الحديث قال لي بلغتنا العامية في شيء من الخجل:

_ تعرف حاجة عايز اقولهالك بس محرج جداً جداً.. تسمح ليا اقولهالك.. والله محرج جداً.

 قلت له: 

_  قول اللي عندك، خير إن شاء الله!!

 قال لي والخجل والاحمرار يظهر على وجهه: 

_ أنا كنت زمان قبل ما اشوفك واعرفك كنت مفكر إنك واحد متكبر ومش شايف حد قدامك.

تعجبت وقلت له بابتسامة لطيفة: 

_ ليه كدا غريبة أنا معملتكش ولا شوفت مني حاجة قبل كدا!!! 

قال لي بعض الأشياء التي لا تذكر قال: 

_ من صمتك الدائم، ومش عارف كنت شايفك كدا ليه.. وكذا حاجة تانية مش مهم بقا، بس بعد ما شوفتك وعاملتك مرتين حضرتك إنسان غير  اللي كنت مفكره خالص.. لا متكبر، ولا حاجة خالص، حضرتك إنسان جميل ومحترم.


من الحيف أن تحكم على الآخر من ظاهره، وأن تنظر إليه نظرة سطحية، هذه الشرفة التي ترَ الناس منها اغلقها تماماً ومن الآن، ليس الحكم على الآخر هكذا. 


البعض يحكم على الآخر من زواية معينة ويظل هذا الاعتقاد في مخيلته، وقد يكون هذا الاعتقاد من الأمور التي تمنع الاتصال البشري، والتعارف وتكوين العلاقات.


 الحكم على الآخر بالمعاشرة والمخالطة وهذا ما علمناه من زمن.


 هناك مثل شعبي دارج على الألسنة إلي يومنا هذا يقول:

_ تعرف فلان؟            _ قال: اعرفه..

_ قال: عاشرته؟          _ قال: لا           _ قال: يبقى ما تعرفوش..


هذا هو الصواب في حكمنا على الآخر.. 

يجب على العقول أن تتريث في حكمها على الآخر، وألا تحكم على أحد بالصلاح أو الفساد من ظاهره. 


في مجتمعنا هذا نحكم على من يصلى، أو من يلازم المساجد بالتقوى وصلاح الحال، وأنه شخص متدين ملتزم، وملاكاً يمشي على الأرض، وأيضاً تقصير الثوب، والجلباب وتطويل أو إطلاق اللحية، أو المسبحة كلها من الأمور التي اتخذها الناس في حكمهم على نوعية هذه الأشخاص وهذه الفئة بالصلاح والالتزام، أو على هذا الذي يدخن بالفساد والضلال أو غيرها من الأمور، والمقاييس الغير صحيحة بالمرة في حكمنا على الآخر. 


أغفلنا جوانب كثيرة في حكمنا على الآخر؛ أغفلنا النوايا، أغفلنا ما يمر به الشخص من متاعب حياتيه ومحن، وأغفلنا ثقافة العذر، أغفلنا جوانب كثيرة في حكمنا على الآخر. 


عن أبي هُريْرة عَبْدِ الرَّحْمن بْنِ صخْرٍ  قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ: إِنَّ الله لا يَنْظُرُ إِلى أَجْسامِكْم، وَلا إِلى صُوَرِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ " رواه مسلم.


الله بجلالته لا ينظر إلى إلي أجسامنا ولا صورنا ولكن ينظر إلي القلوب والنوايا فكيف لنا ان ننظر إلى الناس من هذا الجانب المضل؟! فمن الجهل حقاً أن ننظر من هذا الجانب ونحكم على الآخر بهذه الطريقة. 


هناك جانب من جوانب الحكم على الآخر تعتبر من سوء الظن؛ فالبعض يحكم على الآخر ويظن ويسيء الظن بغيره بموقف معين، أو فعل صدر منه أو من حديثه عن موقف معين فيسيء الظن ويقيم هذا الشخص بهذه المعايير التي سبق ذكرها. 


يقول الدكتور أحمد شتيه: 

" الحكم على الآخر إنما يكون بما ظهر لك منه. والحكم عليه من حيث بواطنه المحتملة أمر لا يقبله العقل المتزن." 

فإن الحكم على الآخر يكون بما بدر لك منه، وما عاشرته عليه، أما من حيث ظنونك، واحتمالاتك وحكمك عليه بهذا الشكل أمر لا يقبله العقل المتزن الرشيد الفطن.

 

يحزنني كثيراً عندما يأتي أحدهم ويخبرني أن هذا الشخص يقول عني هذا الشيء الذي ليس بي تماماً، يحزنني أن البعض يحكم ولا يرَ الناس إلا من وجهة نظره، ويحكم بما سمع لا بما رأى.


 الحكم على الناس بما رأيت منهم لا بما سمعت عنهم وهذا هو الصواب. 


بوابة سوء الظن وثقافة عدم العذر عند كل موقف سبباً في تحطم العلاقات، يقول ابن سيرين رحمه الله «إذا بلغك عن أخيك شيء فالتمس له عذرا، فإن لم تجد فقل لعل له عذرا لم أعرفه».


ثقافة عدم العذر ثقافة أصبحت لا تخلو من كل عقلية؛ فالجميع لا يلتمس الأعذار عند كل موقف ويضع في عقله الظنون تجاه من حكم عليه وتظل قابعة في العقل حتى مواجهة هذا الشخص على مسرحٍ واحد فإذا بهذا الشخص يعنف ويعنف، ويخرج ما في صدره من ظنون والمحكوم عليه في حالة من التعجب من الذي يسمعه، حتى إذا هدأت عاصفته وانتهى من عتابه، ذكر له المظلوم اعذاره ورد على ما قال من ظنون، ومن هنا عرف هذا الذي ظن بالسوء بأنه أخطئ تجاهه، فتبع هذا الإيذاء الندم.. وبدأ يندم على ما قاله وما ظنه تجاهه، فسوء الظن هنا إيذاء يتبعه الندم، الجميع يمر بهذه المواقف وحتى أن الأغلبية لا تتعلم شيء، وما زالت تخطأ وتخطأ بحق هذا وذاك بسب سوء الظن. 


نهى الله عز وجل وحذرنا من التسرع والحكم قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ﴾ [النساء: 94]. 


نرَ اليوم في الدائرة المأساوية (دائرة السوشيال ميديا)

هذه الدائرة الملهاة مليئة بالقضاة؛ قطاع كبير اتخذ نفسه حاكماً على الناس وعلى أفعالهم، وحكموا على الناس من هذه الدائرة وسوء الظن المجحف حقاً الذي نراه، فنجد الطعن في الميت وسوء الظن به، وأصبحت الأكثرية تطعن وتظن بالسوء حتى للذي توارى في التراب. 


حتى في أخر حادثة مقتل( نيرة أشرف) وسوء الظن الذي حل بها؛ أولئك الأشخاص الذين طعنوا فيها وألقوا عليها الشبهات والظنون، وحتى أنهم حكموا عليها بالفسق والفجور والزنا وأنها في النار ملقاه، والله اعلم بها وبحالها وبما تخفى الصدور. 


الكلام في الناس بغير علم جرم عظيم، والله عز وجل يقول: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ﴾ [النور:15]. 


روى البخاري من حديث سهل بن سعد الساعدي: " أنه مر رجل من فقراء المسلمين على النبي يوما فقال النبي لأصحابه: ( ما تقولون في هذا ؟ )، فقالوا: رجل من فقراء المسلمين، هذا والله حرى إن خطب ألا يزوج، وإن شفع ألا يشفع ، ثم مر رجل آخر من الأشراف ، فقال: ( ما تقولون في هذا؟ ) ، قالوا: رجل من أشراف القوم هذا والله حرى إن خطب أن ينكح، وإن شفع أن يشفع، فأشار النبي على الرجل الفقير الأول فقال: ( والله هذا خير من ملء الأرض من مثل هذا ).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه في شرحه للحديث: 

" فهذان رجلان أحدهما من أشراف القوم ، وممن له كلمة فيهم، وممن يجاب إذا خطب، ويسمع إذا قال، والثاني بالعكس، رجل من ضعفاء الناس ليس له قيمة، إن خطب فلا يجاب، وإن شفع فلا يشفع، وإن قال فلا يسمع.

فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هذا خير من ملء الأرض مثل هذا ) أي: خير عند الله عز وجل من ملء الأرض من مثل هذا الرجل الذي له شرف وجاه في قومه ؛ لأن الله سبحانه وتعالى ليس ينظر إلى الشرغ، والجاه، والنسب، والمال، والصورة، واللباس، والمركوب، والمسكون، وإنما ينظر إلى القلب والعمل، فإذا صلح القلب فيما بينه وبين الله عز وجل، وأناب إلى الله، وصار ذاكراً لله تعالى خائفاً منه، مخبتاً إليه، عاملاً بما يرضي الله عز وجل، فهذا هو الكريم عند الله، وهذا هو الوجيه عنده، وهذا هو الذي لو أقسم على الله لأبره. "شرح رياض الصالحين" لابن عثيمين،(3/ 52-53). 


إن الحكم على الآخر وسوء الظن به من الأمور المجحفة البعيدة كل البعد عن المنطقية، والعقلانية تحتاج لإعادة نظر في هذا الأمر المخزي، يحتاج البعض ألا ينظر من جانب واحد ومن هذه الزاوية التي ينظر بها إلي الخلق، نحتاج النظر للصورة كاملةً، نكمل الصورة بالمعاشرة حتى تتضح بوابة هذه الظنون، لماذا نتدخل في حياة البعض بهذه الشكلية وهذه الصورة المجحفة؟؟


 هذا الداء السيئ لا يجب ان يلازم البعض بهذه الصورة، لكل جسد عقليته، وتفكيره، ومعتقداته، وظروفه الحياتية، ونفسيته، وظروفه الإجتماعية والفسيولوجية وغيرها، هذا المشهد الذي تراه قد يتغير نظراً لظرف هذا التوقيت وما يمر به الشخص.


 نظرتنا الثاقبة لهذه الأمور وحكمنا على الآخر بهذا الشكل تحتاج البتر تماماً.


نحتاج ومن الآن أن نربي أبنائنا، وأن نعدل هذه الثقافة السيئة ثقافة الحكم على الآخر بهذه الشكلية وهذه المعايير، وأن نحسن الظن بالآخر؛ لأن هذا الشيء السيئ يجلب البغضاء والغل في الصدور.


 نحتاج أن نترك هذا الداء؛ حتى تسلم صدورنا. 


_____________

Share To: