رؤية معاصرة للطلاق المعلق على شرط اختياري في  ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية | بقلم الدكتورة روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة 


رؤية معاصرة للطلاق المعلق على شرط اختياري في  ضوء مقاصد الشريعة الإسلامية | بقلم الدكتورة روحية مصطفى الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة



الطلاق المعلق له أكثر من صورة وأخص بمقالي هنا الطلاق المعلق لفظا ومعنى بحصول أمر اختياري يمكن فعله أو الامتناع عنه في المستقبل بأداة من أدوات الشرط ؛ كأن يقول الزوج لزوجته إن ذهبت إلى بيت أهلك فأنت طالق ، أو إن كلمت فلان فأنت طالق ، أو إن خرجت فأنت طالق أو دخلت فأنت طالق ونحو هذا . 

فهذه المسألة من القضايا الشائكة التي يُعاني منها كثير من الأسر المسلمة اليوم ، وقد اختلف الفقهاء فيها وسبب اختلافه يرجع لعدم وجود دليل صريح من كتاب أو سنة أو قياس معتبر يقضي بوقوع الطلاق المعلق على شرط ، وهي من مسائل الفروع ، والخلاف فيها سائغ ، وإذا كان لايُنكر تقليد قول في مسائل الخلاف فتقليد مايدعمه الدليل والتعليل ويحقق المصلحة أولى من كل وجه فليس الصواب دائما مع الكثرة ولا الخطأ دائما مع القله فرب رأي انفرد به فيه تؤيده الحجة ويشد أزره المنقول والمعقول .

وقد اختلف الفقهاء في حكم وقوع الطلاق المعلق لفظا ومعنى على شرط اختياري ، فمنهم من قال بوقوع الطلاق عقب وقوع الشرط ولا عبرة بنية الزوج متى كانت المرأة عند وفوعه محلا للطلاق ، به قال الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة  ، وعمدة أدلتهم في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : " المسلمون على شروطهم "  ، أوردوا هذا الدليل للاحتجاج به على وقوع الطلاق إذا وجد الشرط المعلق عليه  ، والاستدلال بصدر هذا الحديث يرده منطوق عجزه ؛ وهو " إلا شرطا أحل حراما أو حرم حلالا " والمعلق على شرط يحرم الزوجة على زوجها خاصة إذا كانت هذه هي الطلقة الثالثة التي لا تحل له من بعدها حتى تنكح زوجا غيره ، فضلا عن أن المسلمون على شروطهم التي اشترطوها على أنفسهم طائعين عملا بالقاعدة : " من شرط على نفسه طائعا غير مكره فهو عليه "  والمرأة اُكرهت على هذا التعليق فكيف نلزمها به ، أقصى مايمكن قوله ان الطلاق المعلق على شرط يُحمل على معنى الوعد بإيقاع الطلاق إن فعلت الشرط ، ومن شأن الوعد أنه غير ملزم ، ولا يجب الوفاء به خاصة إذا ترتب عليه مضاره من تطليق الزوجة وتقويض بنيان الأسرة .

وأما القول الثاني فذهب أصحابه إلى الرجوع إلى نية الزوج ، فإن نوى الطلاق وقع عقب وقوع الشرط ، وإن كان يقصد التهديد والتخويف وحملها على فعل أمر معين أو تركه ، لا يقع به طلاق  البتة وتلزمه كفارة يمين، وهذا قول ابن قيم وشيخه ابن تيمية   ورأي كثير من المعاصرين مثل الشيخ أبو زهرة ، والشيخ محمود شلتوت ، الافتاء المصرية وبعض دور الإفتاء العربية ، ولا دليل لهم على هذه التفرقة إلا قول النبي صلى الله عليه وسلم: " إنما الأعمال بالنيات ولكل امريء مانوى "  ، فقالوا أن الله تعالىاعتبر النية في القول فلم يؤاخذ على ما يتلفظ به المرء من قول لا يريده حتى يكون يقصد أثره، فرفع - سبحانه وتعالى - (المؤاخذة عن المتكلم بكلمة الكفر مكرهاً لما لم يقصد معناها ولا نواها) فكذلك المتكلم الطلاق والعتاق والوقف واليمين والنذر مكرهاً لا يلزمه شيء من ذلك لعدم نيته وقصده  .، ولا يصلح الاستدلال به في هذا الموضع ؛ فليس كل أمر في الشريعة يحتاج إلى معرفة نية فاعله ليترتب أثره عليه أو لا يترتب ، فانعقاد الزواج لا يحتاج إلى نية ، بل لو قصد الزواج هازلا لاعبا انعقد وترتب عليه آثاره ، وطالما أن النية غير مؤثرة في الابتداء فهي غير مؤثرة في الانتهاء من باب أولى ، وبما أن عقدة الزواج تمت بيقين فلا تنفك إلا بيقين .  

أما القول الثالث في المسألة فهو عدم اعتبار الطلاق المعلق على شرط ، وأنه لغو لا يترتب عليه أي أثر إلا كفارة اليمين إذا حنث الزوج وفعلت الزوجة الأمر المعلق عليه وذلك لعدم الدليل من كتاب وسنة ،به قال ابن حزم الظاهري   وبعض الشافعية  والشيعة الجعفرية وبه قال الشيخ مصطفى العدوى  ، والأستاذ علي حسب الله وصرح بميله إليه· ·وبهذا القول أخذت مجموعة من قوانين الأحوال الشخصية العربية ، جاء في الفصل الثاني والخمسين من مدونة الأحوال الشخصية المغربية أن (الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع) ، وجاء في الفقرة (ب) من المادة الثالثة والثلاثين من قانون الأسرة الليبي رقم 10 لسنة 1984م أنه (لا يقع الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه) ، وورد في المادة الخامسة ومئة من قانون الأحوال الشخصية الكويتي أنه (يشترط في الطلاق أن يكون منجزاً)، وهو ما يفهم منه أن الطلاق غير المنجز لا يعتبر، وعللت المذكرة التوضيحية لقانون الأحوال الشخصية الكويتي اختيار العمل بهذا القول إن (الشرط الذي يعلق عليه الطلاق، لا فرق بين أن يكون ذنباً تقترفه الزوجة وبين أن يكون طاعة منها، وقد يكون التعليق على فعل شخص آخر وعلى هذا كثرت حوادث الفرقة والشتات من دون ذنب، على حين غفلة من الزوجات الصالحات المطيعات، والزوجة في هذه الحال أحب إلى زوجها· وإن تقوية العزائم على الفعل أو الترك، ومثلها تأكيد الأخبار إنما طريقها في الإسلام هو الحلف بالله - تعالى -، واستخدام الطلاق لذلك هو انحراف عن غايته وما شرع له)   وهذا القول هو ماتطمئن إليه نفسي ؛ لمايلي  : 

قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا) [الأحزاب:28] فهذا تعليق (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) [الأحزاب:28] فلم يقل لهن: إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فأنتن طوالق؛ لأنه إذا قال لهن: (فأنتن طوالق) ، فمعناه: أنه جعل الطلاق لهن، والطلاق عند الفقهاء لمن أخذ بالساق، فقال الله لنبيه: (قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ} [الأحزاب:28] فرجع الأمر ثانية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي هو الزوج، فكذلك ينبغي أن يرد الأمر إلى الزوج، فإذا قال الرجل لزوجته: أنتِ طالق إذا اخترتِ كذا، فاختارت هذا الشيء، فإنه يرجع هو ويطلقها بنفسه، فإن تخلف عن التطليق لم يقع .

عند وجود الشقاق بين الزوجين شرع الله تعالى سبلا للتقويم والإصلاح أولها الوعظ وآخرها حكم من أهله وحكما من أهلها ، والمعلق على شرط لم يُراعى فيه هذا المنهج .

قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ) سورة الطلاق آية 1 ، فقد شرع الله تعالى الطلاق وضع له ضوابط ليقع على طريقة السنة دون إثم أو ضرر وهي أن تكون المرأة مستقبلة العدة بمعنى أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، والمعلق لم يُراعي فيه هذه الضوابط ، ويرده قول النبي صلى الله عليه وسلم : " من أحدث في أمرنا هذا ماليس منه فهو رد "   متفق عليه.

جعل الله تعالى الطلاق بيد الرجل  لا بيد المرأة حفاظا على الزواج ، وتقديرا لمخاطر إنهائه ؛ لأن عليه تبعات تدعوه إلى التريث والتفكير قبل إيقاع الطلاق ، ومن علق الطلاق على شرط فقد عمي عن السنة وجعل حل عقدة النكاح بيد المرأة على غير إرادتها ،  وهذا يصادم مقاصد الشريعة  

في وقوع الطلاق المعلق على شرط تنكيس لقاعدة : "  يغتفر في البقاء مالا يغتفر في الابتداء ،   فكيف لا نعتد بالزواج المعلق على شرط والضرر فيه منتفي غالبا ، ونُجيز تعليق الطلاق على شرط والضرر فيه محقق من هدم بنيان الأسرة وتشريد الأولاد فضلا عن ظلم المرأة وسوء معاشرتها بإجبارها على أن تعيش تحت تهديد سيف الطلاق .

الطلاق كالزواج، وكما لا يصح الزواج االمعلق، فكذلك الطلاق، ولاحتمال أن يجيء ذلك الوقت وهي ليست بزوجة بموتها أو بطلاقها قبله فيكون لغواً   هذا فضلا عن المضار النفسية الناشئة من تعليق الطلاق ، من بلبلة الفكر واضطراب النفس وعدم استقرار الحياة أعظم من المضار المالية الناشئة عن تعليق البيع على شرط فكيف يُباح الأول ويُمنع الثاني ، فلما لا نقول في الطلاق كما قال الفقهاء في الزواج والبيع ، بل هو أولى .  

الطلاق المعلق على شرط يفتح بابا لا يُسد في كثرة وقوع الطلاق خاصة من العامة الذين يُكثرون الحلف بالطلاق وتعليق الطلاق دون إدراك لأثاره ، وعموم البلوى سببا لتخفيف فضلا عن عدم وجود الدليل أو التعليل المنضبط  لتعضيد الوقوع . 

المعلق يناقض مقاصد الإسلام في تشريع الطلاق حيث شُرع كآخر حل عند استحالة الحياة الزوجية ، والمعلق يقوض أركانها لأتفه الأسباب ، فهل يستويان ؟ اللهم لا .

عدم وجود حالات لتعليق الطلاق على شرط في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وزمن أصحابه بسند صحيح ، هذا في المرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، أما الموقوفات على الصحابة رضوان الله عليهم فأسانيدها لم تبرز إلا أثر واحد ورد في البخاري معلقا ، ولم يورد الحافظ بن حجر له إسنادا ، وهذا دليل على أن المعلق على شرط لا يُعد شيئا ،  ولو كان له أثر في وقوع الطلاق لبينه صلى الله عليه وسلم في سنته الشريفة ، ومن التعسف اعتباره وتقويض الحياة الزوجية بسببه ولا دليل عليه من قرآن ولا سنة ، فضلا عن حاجة الناس اليوم إلى التيسير الذي هو مسلك نبينا الكريم الذي ماخير بين أمرين إلا اختار أيسرهما مالم يكن إثما  ، لذا كان الأولى عدم الاعتداد بالطلاق المعلق على شرط . والله تعالى أعلى وأعلم .




Share To: