عالم موازي | بقلم الكاتبة السودانية تسنيم عبد السيد
الحرب هذه رغم مآسيها وكوارثها، إلا أنها كانت سببًا لنتعرف على واقع جديد للحياة في هذه البلاد مترامية الأطراف، ففي رحلة الهروب نحو المناطق الآمنة خارج العاصمة الخرطوم، كشفت لنا الحياة عن وجهها الآخر وصفعتنا بكفها الخشن، لنستفيق ونرى عالمًا موازٍ خارج المدن، وجوه الناس في القرى يعلوها الرهق، كأنهم قد عقدو صفقةً مع الشقاء مداها نهاية العمر، بدا لنا وكأن الخرطوم أخت جشعة وأنانية حازت على كل شيء وتركت اخوتها معدمون!
لم يحدث أن زرت ولايات السودان من قبل، وكنت أعلم أن ثمة فرق بين العاصمة وبقية المناطق، لكن تفاجأت بأن الهوة شاسعة! مع أن الخرطوم ليست "القرية الذكية" لكن رغم تواضعها كمدينة مقارنة بكثير من عواصم العالم، إلا أنها على الأقل بها الحد الأدنى من مطالب العيش والحياة الإنسانية الكريمة.
إذا كانت هنالك جهة ما تتحمل وِزر هذا التدهور والخلل في ميزان العدالة الاجتماعية وتوزيع الثروة بين العاصمة والأقاليم، فلحكومة عمر البشير النصيب الأكبر، تلك التي جلست على سدة الحكم ثلاثين عامًا كانت تكفي لتعمير قارة وليس بلد!
لكن بجهلهم وسوء ادارتهم أضاعوا علينا فرصًا كانت سانحة للنهوض بهذا البلد الفقير الغني! ففي الوقت الذي تحتفل فيه دوله الإمارات بمرور 40 عامًا دون انقطاع للكهرباء، توجد أماكن هنا في هذا السودان لم تعرف الكهرباء اليها طريقًا، وبها بشر يأكلون ويشربون وينامون، كأنهم خُلقوا عبثا! وفي ظنهم أن حياتهم حياة! ولا يعلمون أنهم على هامشها يعيشون، ولم يدركوا أن هذا الكون مسخر لخدمتهم وتذليل مصاعبهم إذا أرادوا وسعوا، وأن العالم يسع أحلامهم جميعًا ويترقب عطاءهم وانجازاتهم.
ما يجري في السودان اليوم يؤكد على أن هذا البلد عبارة عن أرض وبشر، لا توجد دولة! فكان حريًا بمن يحتربون الآن لأجل المناصب، التركيز على بناء الدولة أولًا، وازاحتها من حافة الانهيار ومن ثم يتنازعون المناصب والكراسي، فإلى متى ستعترك النُخب السودانية على المكاسب الشخصية والمصالح الخاصة على حساب رِفعة هذا البلد وعلوِ شأنه؟! متى سيعيش هذا الشعب حياته التي تليق به، و يتوقف عن تسوُّل الرخاء والأمن في ديارٍ غير داره؟!
فليعلم أهل هذا البلد المكلوم حُكامًا ومحكومين أن العمر قصير والحياة محدودة، ومن الظلم أن يرحل الإنسان قبل أن يعيش، وكما قال فيكتور هوجو في روايته البؤساء: "الموت ليس شيئًا.. الشيء الرهيب هو أن لا نعيش".
أين العقول المُفكرة؟ أين أصحاب المبادرات؟ متى سيتوقف كل هذا الهُراء؟ ويبدأ السودان صفحته الجديدة التي عنوانها الإرادة والعمل والإنجاز، من سيضع حداً لهذه المهزلة، ويقف في لحظة مفصلية من التاريخ ليقول بملء فيه و يجهر بأعلى صوته "هذا يكفي"! لقد تأخرنا كثيراً، لن نقبل أن نكون دولة ثانية في هذا العالم! ماذا ينقصنا لتصبح السودان دولة اقتصادية ناجحة، دولة متقدمة، دولة عظمى.
أين قادتنا من "مهاتير" ماليزيا، و "كاغامي" رواندا،
"و لي كوان يو" سنغافورة، الذين خرجوا ببلدانهم من المجاعات والحروب الأهلية والفقر، إلى مصاف العالم الأول، فأصبحت في وقت وجيز من أسرع دول العالم تحقيقاً للنمو الاقتصادي، وتحوّلت من دولٍ زراعيةٍ فقيرة إلى دولٍ صناعيةٍ متقدمة.
أولئك الذين صنعوا النهضة وأقاموا دُولًا رائدة من لا شيء! هم ليسو أنبياء ولا خوارق، إنما بشر لا فرق بينهم وبين قادة هذه البلاد سوى "الإرادة"، أولئك أرادوا لبلدانهم أن تكون، فنهضت وكانت، أما هؤلاء فما زالوا في مرحلة التمني ولم يُريدوا بعد.
ويكفي ما قاله لي كوان يو عن نفسه: " أنا لم أقم بمعجزةٍ في سنغافورة، أنا فقط قمت بواجبي، وأخرجت من رحم هذا الشعب أجيال تحب العلم والأخلاق، بعد أن كان شعبًا يبصق في الشوارع، ويشتم بعضه بعضا".
وأخيراً أُردد ما قاله الطيب صالح قبل عشرات السنين: " أيُّ وطنٍ رائعٍ يمكن أن يكون هذا الوطن.. لو صدق العزم، وطابت النفوس، وقلّ الكلام، وزاد العمل".
Post A Comment: