دُرُوسِ وفوائدِ من عاشوراء | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف 


دُرُوسِ وفوائدِ من عاشوراء | بقلم فضيلة الشيخ أحمد علي تركي مدرس القرآن الكريم بالأزهر الشريف



يحلَّ علينا شهر الله المـحرَّمٍ، ويحلُّ معهُ ذكرى عاشوراء، يومٌ عظيمٌ من أيام الله تبارك وتعالى ،  يومٌ نجى الله فيه كليمه موسى عليه السلام ومن معه من المؤمنين، وأهلك فرعون الطاغية ومن معه من الظالمين.

 

إنها قِصةٌ عظِيمةٌ، تحدَّثت عن الإيمانِ والكفرِ عن الشِدَّةِ والفَرَجِ عن العُسرِ واليُسرِ قِصةٌ مَليئةٌ بالفَوائِدِ والعِبرِ والعِظاتِ والغِيرِ فمن أوائِل فَوائِدِ هذه القِصةِ العَظِيمةِ :


أنَّ آياتِ اللهِ تعالى في القُرآنِ، وآياتِه في الكونِ، وآياتِه في تَسيِّيرِ أحداثِ الحياةِ، يَنبغِي للمُسلمِ أنَّ يتدبَّرها جيداً، وأنَّ يعتبِر ويتَّعِظَ بها .


لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ


سورة يوسف


ومِنْ أَقوى دُرُوسِ وفوائدِ هذه القصةِ العظيمة: 


تَحريمُ الظُّلْمِ بكلِّ صُورهِ وأشكالِهِ، وبيانِ شُؤمِهِ وسُوءِ مآلِهِ .


روى مُسلمٌ في صَحيحهِ عَنْ أَبِي ذَرٍّ -رضي الله عنه عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِيمَا يرَوَيهِ عَنِ اللهِ تَبَارَكَ وَتعالى أَنَّهُ قَالَ: 


يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا؛ فَلَا تَظَالَمُوا .


وكانَ أبو إدريسَ الخولانِيُ رحمهُ اللهُ إذا حَدَّثَ بِهَذَا الحَديثِ جَثَا عَلَى رُكبَتَيهِ؛ مِنْ هَولِ مَا فِيهِ .


ومن أعظم فوائد هذه القصة وأجلِّ دروسها: 


أن الله تعالى إذا أراد شيئًا هيأ له أسبابًا عجيبةً لطيفة مُقدماتُها لا تُوحي بنتائِجها فهذا فرعونُ قد تجبَّرَ وطَغى، وعاثَ فساداً في بني إسرائيل وبَغى قتَّلَ أطفالهم واسْتحيا نِساءهم وقال: 


فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى


سورة النازعات


بل وأمرهم بعبادته قائلاً: 


مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي


سورة القصص


 ومع ذلك كُلِّهِ فقد كان اللهُ يُهيئ لهذا الظالم أسبابَ هلاكِهِ من حيثُ لا يحتسِب.


وربُنا سُبحانهُ كما جاءَ في الحديثِ الصحيح: 


يُملي للظالم، حتى إذا أخذهُ لم يُفلتهُ .


 وقد أملى اللهُ لهذا الطاغيةِ أربعينَ سنة، حتى إذا وصلَ طُغيانهُ مداهُ، وزُيِّنَ لهُ سُوءُ عملهِ وصُدَّ عن السَّبِيلِ .


وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَاقَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ


سورة الزخرف


جاءهُ بَأْسُ اللهُ الذي لَا يُرَدُّ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ، وأخذه اللهُ وجنوده أَخْذًا وَبِيلًا، وأغرقهم في اليمِّ وجعلهُم عبرةً للعالمين .


فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ 


سورة يونس


وصدق الله: 


وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ


سورة إبراهيم


ومن فوائد هذه القصةِ العظيمة: 


أن الباطلَ قد ينتفشُ ويربو ويتمدَّدُ ويزهو حتى ييأسَ كثيرٌ من الناسِ من صلاحِ الأحوال، لكنَّ القرآنَ الكريم ومن خلالِ هذه القِصةِ العظِيمةِ، يُعلمُنا أن لا نيأسَ وأن لا نَقنطَ .


تأمل قوله تعالى : 


حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ


سورة يوسف


فمهما تمدَّدَ الباطلُ وانتفش، وعلا صَوتُهُ وبطش، فالحقُّ أعلا وأقوى، والعاقبة للتقوى، وسينصُرُ اللهُ أولياءه ولو بعد حين .


وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ


[آل عمران: 141]


ومن فوائدِ هذه القِصةِ العظيمة: 


أنْ الاستِهزَاءَ بالصَالحينَ عادةٌ قديمةٌ للطغاة والمفسِدِين، وحِيلةٌ رخِيصةٌ لصدّ الناس عن الدين فهذا مُوسى عليه السلامُ كانَ في لِسانِهِ لثْغةٌ شدِيدة فعيَّرهُ بها فِرعونُ قائلاً: 


أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ


سورة الزخرف


بل وزعمَ الطَّاغِيةُ أنَّ دَعوةَ التَّوحِيدِ التي جاءَ بها مُوسى عليه السَّلامُ إنَّما هيَ دَعوةٌ للفسادِ في الأرضِ، ثمَّ رتّبَ على هذهِ الفِريةِ أنَّ مُوسى يَستَحِقُّ القتل .


وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ


سورة غافر


وهكذا هو دأبُ الظلمةِ والمفسِدِين، ينتهجون أيَّ وسِيلةٍ تُمكِنَهم من الصدِّ عن سبيلِ اللهِ .


قالَ تعالى :


كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ


سورة الذاريات


ومن فوائدِ هذه القِصةِ العظِيمة:


 أنَّها تُعلمُنا التفاؤل والأمَلَ أن نتفاءلَ بخروجِ الخيرِ من وسط الشَّرِ، وأن الفَرجَ يولدُ من رحم الأزماتِ، وأنَّ في طياتِ كلِّ مِحنَةٍ مِنحَةٌ، وأن معَ كُلِّ ألمٍ هُناكَ أملٌ، ومعَ كُلِّ بلِيةٍ, هُناكَ عَطيّة، وأن مع العسر يسراً, إنَّ مع العسر يسراً .


وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ


سورة البقرة


وكم لهذِه الأمّةِ من وثَبَاتٍ بعدَ كبَوَات، وإفاقاتٍ بعد غَفَوات!, كيف لا؟! وهي الأمّة المرحومةُ المنصُورةُ, التي لا يُدرَى خيرُها في أوّلها أو في آخِرها, وهي الأمّةٌ التي تمرضُ ولا تموت، تُجرَحُ ولا تُذبَح، تُفصَّلُ ولا تُستأصل .


كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ


سورة المجادلة


وإنَّ في طيات هذه القصة العظِيمِة من الآياتِ البيناتِ، والدُّروسِ النيرات، والعِبرِ البَالِغاتِ، ما لو استلهَمتهُ الأجيالُ لصلُحت الأحوال؛ فالقوةُ للهِ جميعاً



Share To: