مناورة بين رسمين | بقلم الأديب الفلسطيني طلعت قديح
الجزء الأول
قصيدة " اللّوحة" 2004
عارف الساعدي الشاعر؛ صوت عراقي لا يتقن الشعر بشكله المهني، لأن الإتقان يعني الاشتغال والتعب في الوصول لغاية وهي إنجاز قصيدة تناور حتى ترضي القارئ أو المستمع.
بقامة النخيل ينثر حباله الشعرية، والنثر في اللغة دليل الجود كما نعلم، لكنه عند "الساعدي" يكمن في تصويبه للحالات الشعرية التي يهتم بها، سواء تلك التي تناقش موضوعا ما أو تلك التي تفاجئ الشاعر في استحواذها على باله.
عارف الساعدي شاعر يعزف ما يروق له من البوح، تنساب الكلمات في ولادات تخفي خلف ستارها مخاضا متخف.
اللوحة
سأحاول رسمكَ ثانيةً يا وطني
من أقفاص الدمع
ومن أحلام مفخخةٍ
وأغانٍ مهترئة
سأحاول رسمك
واعذرني يا وطني
إنَ اللوحة منطفئة
أمسكتُ الفرشاة وبعثرت الألوان
على كل ترابك
وتعبتُ تعبتُ ولكني
لم أبصرْ لوناً يشبه لون عيونك
أو لوناً يشبه بعض شبابك
فحنانَك يا وطني
إن ملامحك الآن تقود الفرشاة
وترسم فوق خدودك
كل تجاعيد الزمن
أدركني.... اللون سينفد
واللوحة لم ترسم طفلاَ ً
يضحك يا وطني
وتكاد اللوحة تكتمل
سأسافر في داخلها
وسأسألها كل العمر
ولا أصل
اللوحة هذي الساعة تكتملُ
أمسكت اللوحة يا وطني
فتشت الناس عن الناس
وسألت الاشجار عن الاشجار
العمر يضيع بها وتضيع بأقصى اللوحة
زخةُ أمطار
أربكها اللون المائي فتاهت وانتظرت نهراً لا تشبهه الأنهارْ
اللوحة فيها اشياء كثيرةْ
لكنّ اللوحةَ ينقصها وطنٌ
وضريحُ علي
ومقبرة تسع الفقراء الباقين.
بغداد 2004
........
بعض القصائد تنتشل نفسها من سهام النقد وبوصلة الرؤية التشريحية، بمعرفة تاريخ نشرها أو ولادتها، وهذا ما كان من الشاعر الساعدي، حيث قصيدة "اللوحة" مؤرخة في العام2004، وهو ما بعد الاحتلال الأمريكي للعراق، ومن هذا التاريخ وقبل أن نفتح شرفات القصيدة؛ نتبين أن هواءها حار، وطعمها مرة، ولونها بلون الدمع والوجع، تماما كحال العراق آنذاك، وهذا ما عبر عنه الجو النفسي البائن في بناء القصيدة.
في البدء يكونّ "الساعدي" التمظهر في إدراك ما يريد البوح ، عبر التحايل اللغوي الواضح في المعنى باختيار أولي في الفعل "سأحاول"، وفي نفس الوقت يتجه التحايل اللغوي إلى الزحف ناحية التعب المعنوي الذي يفجره الشاعر بوضوح دون مواربة، كيف لا وهو يتحدث عن وطنه:
سأحاول رسمكَ ثانيةً يا وطني
من أقفاص الدمع
ومن أحلام مفخخةٍ
وأغانٍ مهترئة
سأحاول رسمك
واعذرني يا وطني
إنَ اللوحة منطفئة
في هذا المقطع ينسج الساعدي تداخلا حاصلا بين الإيقاع المتذبذب وهندسة المعنى وتراكمه ذو النفس القصير، وهو في ذلك يختار التكوين الأولي الواضح المعالم "بناء وطن جديد" حيث استعاض بالتكوين الهندسي المعلوم إلى اختياره الرسم، والرسم في تحصيله يحتاج إلى توافق بين الألوان وملكة الرسّام، وهذه رسالة خفية لن يرى ملامحها سوى من يقرأ الرسالة بما خلف الأكمة، ولعلي أتبين دون تحقيق أن ما قصده الشاعر هو إزاحة الطائفية عن جسد الوطن، وكان اجتهاده؛ اختيار ثلاثة أبعاد بانورامية عراقية لازمة في الوجدان العراقي منذ التكوين الحقيقي للشخصية العراقية تربة ومبنى.
كيف يمكن أن يُذكر العراق ولا تُذكر تلك الأبعاد الثلاث؛ الدمع، الأحلام، والأغاني، ولقد مارس "الساعدي" الاحتيال مرة أخرى بالشكل الموارب، فعمد إلى اختزال أو إحكام النقلة التمثيلية للوصف بقوله مثلا: "أقفاص الدمع"، وهو تناص لافت ومحير، فنحن نعلم أن الأقفاص تستخدم لانتقاص الحركة لمتحرك، وبالتالي فإن ما بداخل القفص يتوق للانفلات منه، فكيف جعل الدمع حالة متحركة مُتمناه، والأقفاص طاقة تخزينية له!
فكأنه خلخل المفهوم السائد بأن ما بداخل الأقفاص هو في كينونته يرفضه، لكنه في هذا الوصف التمثيلي جعل "الدمع" مخزونا تكوينيا وليس طارئا، وبدّل حالة في علم الأعصاب الوجداني " Affective neuroscience" للأقفاص من حالة التسرب للحالة السائلة "الدمع" إلى حالة حافظة له، رغم بقاء البناء اللغوي والدلالة اللغوية كما هو "أقفاص"!
هذا المنحى الذي اختاره الشاعر ساعده بشكل إيجابي في بناء يسمح له بالحركة التصويرية، وسلاسة التعبير، وهذا نلمسه في قوله:
واعذرني يا وطني
إنَ اللوحة منطفئة
ورغم حساسية التعبير إلا أننا نشعر بأن القفلة في المقطع الأول - كما أظنه- باتت موفقة، بل محل استكانة لحظية لما بعده.
أمسكتُ الفرشاة وبعثرت الألوان
على كل ترابك
وتعبتُ تعبتُ ولكني
لم أبصرْ لوناً يشبه لون عيونك
أو لوناً يشبه بعض شبابك
فحنانَك يا وطني
إن ملامحك الآن تقود الفرشاة
وترسم فوق خدودك
كل تجاعيد الزمن
يبدو أن الساعدي أدرك أن التفاعل هو المستحسن في المقطع الثاني؛ فبدأه بفعل اقتدار "أمسكت" وهذا تغيير في الانتقال من التحايل إلى استخدام الفعل إلى بسط قدرته من خلال صياغة تفتح تشكيلا جديدا للصورة الشعرية.
لكنه في نفس الوقت يعطينا صورة واضحة، وإن جانبها المعنى المستتر غير المصرح به "الطائفية" في قوله:
أمسكتُ الفرشاة وبعثرت الألوان
على كل ترابك
وتعبتُ تعبتُ ولكني
لم أبصرْ لوناً يشبه لون عيونك
أو لوناً يشبه بعض شبابك
واختار الشاعر هنا الترميز ولو بشكل بسيط، آخذا بالاعتبار التسلل ببطء لما يريد إيصاله، لكنه طرح إجابات في حقيقتها استفسارات، ونرى ذلك في " على كل ترابك"، والتي يطرح من خلالها تلميحا إستشكاليا، وعبر عن ذلك بالحالة الواضحة " وتعبتُ تعبتُ"، ولعل الساعدي أراد إفشاء بعض مكنونه الذي يتجه إلى القناعة الذاتية كمواطن عراقي يعي ما يحدث في وطنه.
فحنانَك يا وطني
إن ملامحك الآن تقود الفرشاة
وترسم فوق خدودك
كل تجاعيد الزمن
أدركني.... اللون سينفد
واللوحة لم ترسم طفلاً
يضحك يا وطني
وتكاد اللوحة تكتمل
سأسافر في داخلها
وسأسألها كل العمر
ولا أصل
اللوحة هذي الساعة تكتملُ
ما يفعله الساعدي - من وجهة نظري- هو تليين اللغة في سبيل إيصال الإحساس الذي لا بد سيجعل القارئ يفكر بوضوح دون عناء في مسار اللغة، لكنه بنفس الوقت سيغرقه في الفكرة المؤلمة "حال الوطن".
لقد أتقن الشاعر مسار القصد المجازي، مع عدم إغفال الفكرة الواضحة، وقد يتبادر للذهن أن المسار للقصيدة واضح في لغته ومفرداته، لكنه يحمل ثراء في مساحة انفتاح الاحتمالات لما يقصده والتي تعبر عن رغبة الشاعر بحضوره لغته بما يناسب تجربة النص.
التشكيل الشعري في القصيدة يمثل إحالة إلى لمحات من سير ذاتية، ويتضمن في كينونته التركيز على تجربة حياتية فكرية، بحيث لا يمكن فصل حياة الشاعر عن شعره، وفي ذات التوقد الفكري لم تكن القصيدة طويلة لتعطي مدى واسعا للسيرة الذاتية ضمنها، لكن الساعدي لملم وثبّت ذلك من خلال الحركة والصورة والتمثيل، مما عزّز ثيمة خاصة بهذه القصيدة، وجعل نمطها نمطا اعتباريا.
برز في هذا المقطع تظهير خفي بين المحسوس والمخبوء، انتقل إلى تفخيم الرؤية العقلية ضمن الصور الذهنية والبصرية، وهذا نراه في استخدام الأفعال "تقود، ترسم، سينفد، يضحك، تكتمل، سأسافر" ومن قبل اكتمال الصورة في:
" إن ملامحك الآن تقود الفرشاة
وترسم فوق خدودك
كل تجاعيد الزمن
أدركني.... اللون سينفد"
على الرغم من أن الساعدي اختزل العام في الخاص "ملامح" "اللون سينفد" إلا أنه أجاد تمكين قوة محركة للصورة إظهار حيوية الانتقال فيها:
" سأسافر في داخلها
وسأسألها كل العمر
ولا أصل".
أمسكتُ اللوحة يا وطني
فتشتُ الناس عن الناس
وسألت الأشجار عن الأشجار
العمر يضيع بها وتضيع بأقصى اللوحة
زخَّةُ أمطار
أربكها اللون المائي فتاهت وانتظرت نهراً لا تُشبهه الأنهارْ
اللوحة فيها اشياء كثيرةْ
لكنّ اللوحةَ ينقصها وطنٌ
وضريحُ علي
ومقبرةٌ تسع الفقراء الباقين.
هل أراد الشاعر إنتاج أو تبيان المفصل الأساسي في الفكرة الوطن!
ومن ثم على قفلة حكائية بقوله:
" لكنّ اللوحةَ ينقصها وطنٌ
وضريحُ علي
ومقبرةٌ تسع الفقراء الباقين."
والقاسم المشترك في استخدام الأمكنة أن المكون لها هو التراب، وما ذهب إليه من مجازية القصد في تطور رمزي، ولعل الأكثر إثارة "ضريح علي" وما تحمله من دلالات دينية وسياسية وفكرية.
إن هذه القفلة تعبر عن انتهاء الصور العنقودية في القصيدة، وتعبر أيضا عن خفوت القوة المحركة للأفعال بعد سيل منها "أمسكت، فتشت، سألت، أربكها، انتظرت، ينقص.."، إن تفويض الأفعال في إدامة الحركة؛ أنتج تفاعلا مع الجو المتصارع بين التاريخ والأمكنة والتماهي.
ومحصلة الشعور الوجداني للشاعر بين وميض وإعتام:
واعذرني يا وطني
إنَ اللوحة منطفئة.
طلعت قديح
Post A Comment: