لَا تَنْسَ أَنَّـكَ أَكَلْتَ وَجْـهَ أَبِيكَ..| بقلم الكاتبة الأديبة المصرية آيات حسن البنا عبد المنعم
وأنتَ ترىٰ زهو جمالِكَ في المرآةِ، تُحصي النجومَ على امتداد قامتكَ الممشوقة، تذكّر وجه أبيك..
وأنتَ تُقلِّبُ أرشيف الصور وذكريات الطفولة، تذكر أنَّك أكلتَ وجهَ أبيك، ظهرَ أبيك، بل كلّ فقرات روحهِ؛ منذُ أن حملكَ حُلُماً جميلاً في فم القلب، وحصدَ ما وجد في جيبهِ من قشٍ وريش؛ كعصفورٍ يبني جنتهُ الصُغرىٰ، وطوىٰ بجناحهِ المكسور أوزار الحروب..
صنعَ من عينيهِ جدولَ ماءٍ، لتُغطِّسَ قدميكَ في مسكٍ وعَنبر.
تجاوزَ أيامٍ ثقال وشجاراتٍ صامتة، مرت بينه وبين زوجته، رُبّما كثيراً ما يتحدثون عن قهر الزوجات وعطاء الأمهات، وقليلاً ما يذكرون وجع الآباء الشُّرفاء..
إن أردتَ أنْ تعرِفَ شيئاً عن ألمِ الأزواج النُبلاء، ادْنُ من تلكَ الأبواب الخشبيَّة المُغلقة لحُجراتِ النوم، تُبصرُ بين مسامها زهوراً لامرئيّة، نمَتْ من عَبَراتهم العالقة كغيمةٍ حُبلىٰ بالمطرِ تسكنُ حُنجرةَ الرُّوح، حين رفعتْ لواء الصبرِ رايةً وعبادة..
إنَّ الزوج الصالح لا يَشِ بأوجاعهِ على الملأ، ولا يرمي زوجته بوردة، يسترُ ما رأى من سوء، فلا يشتري لبيتهِ ستائرَ فاخرةٍ تسترُ النوافذَ فحسبْ، بـل يجعلُ من ذاتهِ حجاباً ثقيلاً يسترُ بهِ زوجته الّتي باتت نَفسه، يُؤمنُ أنَّ لسانهُ حين نطقَ لزوجتهِ: «أحبُّـكِ» صارت جزءًا من شفتيـه.
يُدركُ جيداً أنَّ أغلى ما يقدمه لأبنائه، هي نظرةُ حبِّ آمنة لوالدتهم.
لا تَنْسَ أنَّكَ أكلتَ وجهَ أبيك.. مع كلِّ قطعةِ حلوى شهيّة حملها والدُكَ إليكَ كانت مغموسةً بالتعبِ، أعتقدُ أنَّكَ بعدما كبرت وخضتَ تجارِبَكَ العمليّة، بِتَ تُدركُ تماماً تلكَ النكهة المدسوسة يوميًّا في أرغفة الخبز الّتي كان يجلبها والدُكَ بعد يومٍ طويلٍ في العمل، إنَّ لها مذاقاً غريباً، تحملُ رائحةَ دُخان المواصلات، والطرق الطويلة الّتي كان يقطعها صبحاً ومساء، يتجرَّعُ على مضض نبرةَ مُديرِهِ الحادة، وألمَ ظهرِهِ المحني، الذي لم يكن يعرفُ أنينه إلا صديقهُ الوفي، ذاك الكرسي الخشبي الذي يرافقُ ظِلَّ روحِهِ المُنهكة، وينتظران معاً معاش التقاعد، كان والدك ينتظر دون أن يدري إن كان القدر سيهديه بعض الراحة بعد طولِ عناء، أم سيبحث عن مهنة كفاحٍ أُخرىٰ يُكمِلُ بها دورة القمر حين يشيخ ويغدو بدراً..
قد تقولُ عيناكَ، وأنتَ تقرأ "والدي لم يكن يفعل كلَّ هذا"،
برأيي يكفي إن جسَّدَ جملةً واحدةً منها لتنحني لهُ شكراً، حتماً إنَّ سطوري هذهِ لا تنتمي للآباء الذين خسروا كثيراً من آدميتهم حينَ تخلوا تماماً عن مسؤوليتهم.
وسيظلُّ النصيبُ الأكبر من هذه الكلمات، لكلِّ الآباء الأنقياء أينما حللت أنوارهم، يُزينون بأعمالهم الصالحة أعتاب منازلهم، ويرسمون بعرقهم الحُرِّ الحلال، بسمةً طيبةً علىٰ جبين زوجاتهم وأبنائهم، قد تكون جهودهم في الكثير من الأحيان منسيّة، وهذا وجهٌ آخر من الوجع..
إنَّ الأبناء الذين يجتهدون في السير على طريق البرِّ، يدركون كم أنَّ عبادة الشكر شاقّة وصعبة..
لا أعرف يا "والدي" كيف لي أن أقْلِبَ الساعة الرمليّة منذ أن وُلِدْتُ، وأمنحَ لكلِّ حبّة رملٍ من وقتك قُبْلة..
إنِّي حين أتأمل ذاتي لا أشعرُ أنِّي أكلتُ وجهك فقط، بل ابتلعتُ روحكَ وعقلكَ وفلسفتك، حتى ما أكتبُ الآن من كلمات، هي حصادُ عناوين مكتبتكَ الكُبرى الّتي تحتضنُ جدران بيتنا، فلا يوجد في جعبتي الفقيرة ما أردُّ لكَ أنفاسكَ، لا شيء على الإطلاق..
مازالتُ ظلاًّ خجولاً لاستقامة ظهرِ روحك يا أبي، وأقصىٰ طموحي أن أكون ظلاًّ حنوناً لعينيك..
ابنتك المُقصِّرة..
آيات حسن البنا عبد المنعم.
بيـروت..
11 / صفــر / 1445
28/ أغسطس/ 2023
Post A Comment: