حضرة "المُعلم" أبي | بقلم الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد
![]() |
حضرة "المُعلم" أبي | بقلم الكاتبة السودانية / تسنيم عبد السيد |
أجدني من المعجبين جدًا بمسلسل مصري اسمه "حضرة المتهم أبي"، وأعتبر أن ذلك العمل صُنع ونُفذ بذكاء واحترافية عالية، فبالرغم من بساطة القصة إلا أن حيثياتها صادمة ورسائلها قوية ومؤثرة.
استطاعت تلك الدراما طرح قضية اجتماعية معقدة بأسلوب سهل ومقبول، ابتداءًا من الاسم الذي تمتزج فيه القسوة بالتقدير والإجلال لمقام الأب، مرورًا بالقصة وانتهاءًا بتتر المسلسل الذي كُتبت كلماته بعناية فجاءت عميقة تلامس القلوب!
والغريب في الأمر أنني إلى وقت قريب كنت أظن أن تلك الكلمات صِيغت فقط لأجل ذلك العمل الدرامي، لكن اتضح أن لتلك القصيدة قصة حقيقية، روتها ابنة الكاتب العبقري أحمد فؤاد نجم، والتي ذكرت فيما قالته أنها في يوم من الأيام عاتبت والدها على تقصيره في أمر ما، فجرحته ببعض كلامها وقست عليه، وظنّت أنه نسي الأمر! لكن الابنة تفاجأت بوالدها يتصل عليها بعد مرور وقت ليس ببعيد عن تلك المواجهة ليخبرها أنه كتب قصيدة لعمل درامي يشبه المكاشفة التي دارت بينهم، وأنه استرجع ذلك المشهد، وكتب كلمات قصيدته دون كثير عناء، تلك الأغنية التي أضحت واحدة من أجمل تترات الأعمال الدرامية لشدة صدقها وروعة كلماتها ولحنها وأداءها!
الأغنية كأنها حوار بين الأب وابنه "نازل وانا ماشي ع الشوك برجليّا وانت السبب يابا اللي خِليت بِيّا.. لا فرشتلي بستان ولا حتى بر أمان أعيش عليه إنسان والدنيا في ايديّا.. مع الأسف يابا الدنيا دي غابة مالناش مكان فيها" وكانت العظمة في رد الأب حين قال "حقك على عيني يا ابني يا نور عيني.. لأجل الوفاء بديني لك عندي بعض كلام.. أنا كنت وحداني والدنيا وخداني عايز ونيس تاني يشاركني في الأحلام.. غريب وانا ف بلدي جبتك تكون سندي انصفني يا ولدي اصبر على الأيام"، رد في منتهى الصدق والمحبة الخالصة، لم يجتهد الأب في تبرئة ساحته ورد الاتهامات بل أقرَّ بالتقصير، كما أنه لم يكذب أو يعطي وعودًا بالتغيير وأن القادم أجمل! فقط طلب من ابنه أن يصبر ويبقى سندًا. هكذا بكل بساطة، وعلى الرغم من أن الأب في ذلك المسلسل لم يكن متهمًا حقيقيًا كما يُوحي العنوان، لكنه تحمّل وِزر ابنه وسُجن مكانه، الابن هو من ارتكب الفعل لكن العقوبة كانت من نصيب الأب بكامل الرضا والتسليم والمحبة، أولئك هم الآباء في كل زمان ومكان ما أعظمهم وما أصعب مهماتهم!
خلاصة ذلك العمل أنه لا يوجد والد أو أب يُقصر عمدًا ويتهاون في مسؤلياته تجاه ابناءه، لكن ما لا يفهمه الأبناء إلا متأخر جدًا أن الأب لا يملك أكثر مما يُقدم، وهذا كل ما لديه من عطاء وطاقة وعون.
وبما أننا في مقام عظمة الأب، وفي سيرة تلك الكائنات الجميلة، الذين أزعم أن أبي كان أجملهم! فهو يذكرني ببطل ذلك العمل الدرامي الذي فدى ابنه بنفسه، أبي من تلك الطِينة لقد أعطى ولم يستبقِ شيء!
رحل أبي في نوفمبر من العام 2017م، ومنذ ذلك التاريخ حتى اليوم وأنا أقرأ سيرة ذلك الرجل في روايات غيره، وأراه بعيون من عرفوه كأني لم أعاشره يومًا! فما أسعدنا بذلك المجد وتلك السيرة الحسنة، التي تُذكر كلما ذُكر اسمه أو لُمحت صورته في وجه أحد أبناءه، لقد كان أبي نبراسًا وكُنا نحن من أولئك المحظوظين بأبٍ رائعٍ مثله، زرع محبته في القلوب وظل يسقيها من بحر صدقه وإخلاصه وإحسانه وحُسن معشره وسلامة صدره وسماحة نفسه وكريم أصله.. بذر الخير ورحل! وما درى أن الدوائر بما تملأها تدور، فنحن اليوم نحصد ثمار رحلة العمر تلك! إننا نحظى بالكثير من المحبة والثقة والإحترام فقط لأننا أبناء ذلك الرجل "عبد السيد إبراهيم أحمد" وياله من شرفٍ وحظٍ عظيم.
إن أكثر ما كان يميز تلك الشخصية عِزة النفس والبساطة، أبي لم يحدث أن ترفّع على أحدٍ أو افترى عليه، يحب البساطة في كل شيء، والبسطاء من الناس يروقون له أكثر.
حساس جدًا وقلبه رقيق، لا يحتمل أن يكون سببًا في حزن أحدهم أو أذاه، ويملك صفة جميلة لا يملكها إلا أصحاب الشخصيات الواثقة والقوية والمتصالحة، فكان "رحمه الله" يُجيد فن الإعتذار، يتأسف إذا غضب أو تعصّب على أحدنا حتى وإن كان الأمر يستحق ردة الفعل تلك إلا أنه سرعان ما يعود ليصفح ويأسف، ما أحنّه وأطيب قلبه! لم يحدث أن طلبت من أبي شيئًا ورفض، أيًا كان فهو إما يُلبي أو يعتذر.
ولأن موت البطل حتمي في نهاية كل رواية، انتهت القصة ورحل المُعلم لكن الدرس لم ينتهِ، سنبقى نأتي لذلك الكتاب، ونٌُقلِّب فصول تلك الحكاية، ونُعيد قراءة السطور وما بينها، علّنا ننجح في نهاية المطاف ونكون نِعم الأبناء لذاك الأب الصالح!
إلى أبي في عليائه: ربما لم أبرك تمام البر، فطِيب قلبك وبهاء حضورك غرّني حتى ظننتك خالدًا والموت بعيد! فسامحني على التقصير، لقد آلمني رحيلك أيها الرجل النبيل، لكن عزائي أنك في مكانٍ أفضل مع المخلصين الطيبين أمثالك تتزيّن بكم تلك العوالم الأخرى، وملتقانا في الجنة بإذن الله..
Post A Comment: