من أمر الروح... | بقلم الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي
من أمر الروح... | بقلم الكاتب التونسي / عبد الرزاق بن علي |
تأخر الوقت من ليلة تبدو باردة على غير العادة، تهالك الى فراشه وقد غلبه النّعاس، ...مر وقت طويل لم ينم، الآن فقط يمكنه فعل ذلك بعدما سلك كل السّبل المتشعبة وصاحب النجوم ليال طوال و تطبّبَ من أثر تلك الأيام بما يتداوى به الناس... لكن جرح الروح لا يطيب بالعقاقير والتمائم أو أنه لا يطيب أبدا بل يتخذ من الرماد غطاء إلى حين.
تكاثر الرماد وتكوّم حتى حجب القرح الذي ألمَّ بالروح وكاد يزهقها.
سحب الغطاء بهدوء على وجهه متواريا من تسلل شعاع القمر من فتحة الشباك المكسور كقلبه ..
كان "مورفي" قد أصدر أخيرا أمرا لجنده حتى يعود النّوم الى حضرة هذا المكلوم، كأن جفاء النوم عقابا له لذنب ما أو لعنة تلاحقه . غاب عن الدنيا وسافرت روحه في رحب الآفاق وقد تخلصت من سجنها ونفضت عنها الرماد، لا زمان يقيّد حركتها ولا مكان يحتويها، تتأرجح بين ماض قد انقضى بزمن الدنيا وقادم اضحى متاحا جليّا،...
كانت رغم تحررها مقيّدة بالبحث عن صورتها التي ما فتأت ترسمها وتحدد أبعادها في عالم يحكمه الخذلان والتنكر ، تمرّ على ما مضى من الأحداث تسألها :
ما الذي دعاك حتى تقفين حاجزا أمام الوصل ؟
فتردّ الوقائع :
غريب أمركم أيها البشر، ما تفتؤون تتباكون على أمور أنتم من رسم معالمها لوحدكم ثم تعلقون عجزكم على الظروف ...
واصلت الروح طريقها بلا منهج وقد زادت حيرتها قائلة في نفسها : هل حقا أن ما يحدث هو نتاج العجز ؟ أم هل أن الانسان نتاج ما توسوس له نفسه وأن الاقدار تسير بالضرورة حسب ما يستقر في الألباب والعقول ؟
في غمرة حيرتها شعرت بريح طيبة تجتاحها وتحيط بها من كل جانب لم تستشعر عبقها من قبل. انتشت و حاولت أن تستجلي الأمر،... لا أحد في الجوار, بل أن كل الأرواح تسبح دون تلامس بصمت وسكينة وكأنها جميعا أتت للغاية نفسها، أتت لتشفي غليل حيرتها وتجد لها جوابا عن تساؤلاتها ...
ترى أ يتحقق ما عجزت عليه في زمن المادة ؟ أ يكون لقاء لا تحكمه الظروف ولا الاعذار الواهية ؟
ولا "المكتوب " ؟
نام كأنه ميت غادر الدنيا والتحق بعالم لا تدركه الأبصار و تجلت روحه شفافة في عالم الأرواح المبعثرة.
كانت ليلة لا تشبه ما مضى من ليالي عمره المنصرم، أفاق على صوت طرق خفيف على الباب، لم يطرق أحد بابه منذ أن قرر اعتزال الناس و العيش في بيت منزو آخر الحي المنسي ..
قام متثاقلا كأنه لا يرغب في معرفة هوية الطارق، بعدما فقد الرّغبة في التّواصل واتّخذ من روحه شريكة تقاسمه ولا يشعر أنه بحاجة لمن يعكّر صفو خلوته بها، الشعور بالاكتفاء بعد الخذلان افقده حماس المفاجآت.
فتح الباب وعاد الى الأريكة المحاذية لفراشه قائلا دون أن ينظر في وجه الزائر ولا تبدو عليه ملامح الخوف أو الخشية :
تفضل .
مرت برهة من الزمن و لا أحد تجاوز عتبة الباب، إلا أن عطرا مألوفا ملأ أرجاء البيت وغيّر رائحة الرطوبة المنبعثة كأن الفضاء تحول الى دكّان عطور في المدينة العتيقة، تبدلت ملامحه ونزع رداء الخمول وبدا كأنه يُبعث من جديد. عاد مسرعا الى الباب معتذرا عن سوء ما بدر منه، و قد ملأ الحماس قلبه وتملكه الفضول.
جال ببصره خارجا علّه يرى أثرا دون جدوى، لا أحد في الخارج بل بان له الشارع خاليا لا حياة فيه، عاد أدراجه وقد ازدادت حيرته، قائلا في نفسه " يُطرق الباب ولا أحد يطرقه، يفوح الفضاء عطرا ولا أثر لمن عطّره ؟ "
جلس على الأريكة وقد وضع رأسه بين كفيه وأغمض عينيه عسى أن يجمع شتات عقله قبل أن يدركه الجنون، ...
لم يكن الطارق سوى روح أتت تسأل عن روحه، وقد غادرا سويا الى رحب الفضاء حيث الالتقاء لا تحكمه الشهوة ولا تقف ضدّه الظّروف .
Post A Comment: