خاطرة في مجال الشعر | بقلم الأديبة السورية د. فادية كنهوش


خاطرة في مجال الشعر | بقلم الأديبة السورية د. فادية كنهوش
خاطرة في مجال الشعر | بقلم الأديبة السورية د. فادية كنهوش


فرانسوا شانغ شاعر وروائي وخطاط، عضو في الأكاديمية الفرنسية ترجم بودلير ورينبو ورينيه شار وبعض  السورياليين الى اللغة الصينية.


يقول في تعريف الشعر: "الشعر هو اللغة التي تحولّت إلى نشيد ذو جَرْس موسيقي، وإلى نَفَس ذو إيقاع يسمح لنا بالتواصل والالتحام بعمق مع الكون الحي..جَرْس الشعر يمحي الحدود بين الحياة والموت إذ يمتلك الشعر ، قبل كل شيء، خاصية أورفية. فعلى كل شاعر حقيقي أن يكون "أورفيوس" يجول بين المملكتين".


والسؤال : كيف يجول المرء(الشاعر) بين مملكة الحياة ومملكة الموت؟ ولم تهدف جولاته؟ ومتى تفشل؟


أورفيوس شخصية من الأساطير اليونانية القديمة، اشتهر بموهبته كعازف موهوب على القيثارة التي أهداها إليه بعض الآلهة. ومنذ ذلك الحين وهو يعزف على الآلة حسب رغباته أو حسب حزنه، مما أسعد من حوله. كان


يمكن لموسيقاه أن تسحر الحيوانات البرية في الغابة، وحتى الجداول كانت تتوقف مؤقتًا وتنحني الأشجار قليلاً لتصغي لعزفه الرائع. وفي الإبحار  سمحت موسيقاه بإيقاعاتها بضبط إيقاع ضربات مجاديف الأبطال الذين يخوضون غمار الأمواج. كما هدّأ أورفيوس البحار بموسيقاه الجذابة  التي استطاعت أن تغطي على أناشيد حوريات البحر الرهيبة التي كانت تسحر  البحارة فتأخذهم نحو الموت. واستطاع بموسيقاه  ونشيده إقناع آلهة الجحيم بالإفراج عن زوجته المتوفاة وإخراجها من مملكة الجحيم( ولو انه فقدها بعدها بسبب لهفته والإخلال بشرط الصبر ...) وكل شاعر حقً هو موهوب بعطية من الله كأرفيوس الذي وهبته الآلهة قيثارته...قد يعمل على تثقيف نفسه وصقل موهبته..ولكن الموهبة هي الأساس.. فالصنعة لا تغلب أو تأخذ مكانة الموهبة..فامتلاك عفوية الشعور وصدقه والقدرة على التعبير عنه بطريقة توازي العزف الساحر تجعل من الشاعر "أورفيوس جديد" وخبير  في عالم المفردات بجرسها وإيقاعها وغناها الدلالي، وبالتالي إمكانية تآلفها من خلال الحقول الدلالية التي تستطيع مفرداته الخوض فيها كما تسمح لخيال القارئ الإبحار فيها بسلاسة دون الاصطدام بكسر المعنى والعجز عن متابعة فكرة الشاعر.


قد تختلف مساحات الإدراك واتجاهاتها بحسب القارئ ولكن على البنى  والصور الشعرية أن تؤدي عند كل قارئ الى واحة من المعنى ولو برؤية خاصة به، ولكنها تكون قد أدّت  نفس المهمة  المطلوبة وهي إيقاظ عوالم من الأحاسيس وتكون ناجحة في مهمتها اذا ما أدى الولوج الى هذه الواحات الدلالية إلى الانتشاء العقلي ولو للحظات...قد تمر سريعًا أو تدوم وتؤثر طويلاً في المتلقّي. هكذا تكون قد طالت إقامة الشاعر في مملكة الحياة على قدر ما خلق من المعاني والدلالات الحيّة التي تغلغلت الى وعي القارئ وحتى الى لا وعيه لتحيي ماض..أو مفهوم راكد وتجعله يطفو بإشراقة جديدة الى منطقة الوعي و الحياة الجديدة.


أما بعض معتنقي الشعر، فيعتقدون أن رصفهم للمفردات المتناقضة في دلالاتها والبعيدة عن الاستخدام " الطبيعي" هو الطريق لإدهاش القارئ والتأثير به وحتى لو أدت تراكيبه المغتصِبة للمعنى الى طريق مسدود في خيال وإدراك القارئ..ويشجع "الشاعر" في هذا السلوك بعض" المطبلين " وبعض " المطبلات" والحقيقة كلمة "بعض" هنا واسعة المساحة جدًا... فهم كُثُر إما لمداراة ومحابات...وإما  للخوف من أن يصنَفوا في خانة الجهلاء...


يجهل هذا النوع من معتنقي الشعر أن البساطة والسلاسة لا تتنافيان مع القدرة التعبيرية الفذّة التي تمتّع بها الكثير من المبدعين والتي جعلتهم وجعلت قرّاءهم من أهل مملكة الحياة..حياة الأحاسيس الجذلة تحركّها بحور الدلالات ومهارة الإبحار فيها ...


 تُسلِّط أسطورة أورفيوس الضوء على قدرة الفن  على التأثير في الكائنات جميعها من بشر وجماد وآلهة وقد تجتاز عالم الموت لإحياء من كُتِب عليهم الفناء، و توحي بالأمل في القدرة على التغلب على هذه الحدود من خلال الفن. وأراد شانغ أن يخصص فن الشعر بهذه الأسطورة...لأن الإنسان يكون حيًّا اذا كان لوجوده معنى وإذا كان لفكره أي لكلمته معنًى...وهو يبحث عن المعنى غذاءً لروحه فإذا فقده فقد وجوده...ودور الشاعر والأديب هو اجتذاب المعاني الجميلة وسكبها في قوالب سلسة كموسيقى جذلة ومشاركتها مع الآخرين مخلدًّا كلمته ومنتصرًا على مملكة الفناء...


د. فادية كنهوش




Share To: