حق المشتري بين الصدق والتورية لضمان استرجاع السلعة المعيبة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة
![]() |
حق المشتري بين الصدق والتورية لضمان استرجاع السلعة المعيبة | بقلم أ. د روحية مصطفى أحمد الجنش أستاذ ورئيس قسم الفقه الأسبق بكلية الدراسات الإسلامية والعربية بنات القاهرة |
(واقعة حال)
أ.د روحية مصطفى الجنش
أستاذتي الفاضلة ، اشتريت بنطالًا من محل تجاري معروف ودفعته بثمن يعكس الجودة المتوقعة للخامة، لكن بعد استعماله مرة واحدة، اتضح لي رداءة خامته حيث بدأت تظهر عليه الوبر، مما يشير إلى عيب في المنتج. الحمد لله، ما زلتُ ضمن فترة السماح بإرجاع المنتج. ولكن قوانين المحل تنص على أنه إذا ذكرت وجود عيب في البنطال، سيعرضون عليّ استبداله بمنتج آخر بنفس القيمة، أما إذا طلبت إرجاعه دون ذكر العيب، سيُعيدون لي المبلغ الذي دفعته.
الجواب :
أولا : اتفق الفقهاء على أن العيب الحادث في السلعة بعد قبض المشتري يكون من ضمان المشتري لأن منافعه وغلته له فكذلك عيبه عليه ، إلا في السلع التي لا يظهر عيوبها الخفية إلا بالاستخدام فهي محل خلاف بينهم فهل ضمانها على البائع أم على المشتري ؟ .
ثانيا : يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما البيع عن تراضٍ".أبن ماجة بإسناد صحيح ، وهذا يعني أن البيع يجب أن يتم برضا الطرفين، حيث يرضى البائع بالثمن ويرضى المشتري بالسلعة ، ونظرًا لأن البائع غالبًا ما يكون على دراية بجودة سلعه ورداءتها، بينما قد يجهل المشتري بعض العيوب التي لا تظهر إلا بعد الاستخدام، لذا جاءت الشريعة الإسلامية لتشريع خيارات لحماية حقوق المشتري، ومنها خيار المجلس، وخيار الشرط، وخيار العيب الذي يمنح المشتري الحق في إرجاع السلعة إذا تبين وجود عيب قديم فيها، أي عيب كان موجودًا قبل الشراء، وهذا الأمر محل اتفاق بين الأئمة الأربعة، أما العيب الذي لا يُعرف إلا بالتجربة فقد وقع فيه خلاف بين أهل العلم ، والراجح من أقوالهم ماذهب إليه جمهور الفقهاء من الحنفية والشافعية والحنابلة ، حيث ذهبوا إلى أن هذا العيب يضمنه البائع لا المشتري ، وعدوا ثمن السلعة التي وقعت تحت هذا الوصف من باب أكل البائع أموال الناس بالباطل ، وفي الحالة المذكورة بالسؤال ، فإن رداءة خامة البنطال لا يمكن معرفتها إلا بالتجربة واللبس، وظهور الوبر بعد الاستخدام يشير إلى أن العيب متعلق بجودة القماش، وهو عيب سابق على عملية الشراء، وليس من ضمان المشتري. ، فضلا عن أن هذا العيب لا يظهر إلا بالتجربة ، ومعلوم أن هذا العيب يمنع من الانتفاع بالبنطال على الوجه الذي قصدته السائلة فكأنها دفعت مالا دون مقابل من البائع الذي لأخذ ثمن البنطال وكان من المفترض أن يُسلم المشترية بنطال كامل خالي من العيوب ، فكأن البائع أكل مال المشتري بغير حق .
وعلاوة على ذلك، الثمن المدفوع يعكس توقع الحصول على سلعة جيدة، لكن ظهور العيب يُعد غبنًا وغررًا، وكلاهما محرم في الشريعة الإسلامية، إذ نهى الإسلام عن الغش بكل أشكاله، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "من غش فليس منا". حينما أمر النبي صاحب الطعام الذي أصابته السماء أن يضع الجزء المبلل في الأعلى ليراه المشتري ، صحيح مسلم ، إن الشريعة تؤكد أهمية الأمانة والشفافية في البيع لتحقيق مقصد حفظ المال. ، وحفظ النفس بدرء كل مامن شأنه أن يوقع المشاحنة بينطرفي العقد ، وقد قال صل الله عليه وسلم فيما رواه ابن ماجه بإسناد صحيح : " المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم باع أخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له " .
بناءً على هذا التأصيل الفقهي نقول : أ : نهت الشريعة الإسلامية عن شراء السلعة واستخدامها ثم إرجاعها دون سبب مشروع، لما في ذلك من غش وتلاعب بالحقوق. فالمشتري الذي يستخدم السلعة ثم يعيدها دون وجود خلل جوهري، يتسبب في ظلم للبائع ويخل بمبدأ الأمانة في التعاملات ،وهذه الممارسة تعد نوعًا من التلاعب الذي يتنافى مع أخلاقيات المعاملات في الإسلام، التي تحث على الصدق والشفافية. لذلك، يجب أن يكون الإرجاع مستندًا إلى سبب وجيه وواقعي يبرر هذا الفعل.
ب : في واقعة السؤال وعلى الحال التي ذكرت السائلة فيحق لها إرجاع البنطال إلى المحل واسترداد ثمنه دون الحاجة إلى ذكر العيب، مع الحق في الشراء من مكان آخر، مثل هذا الإجراء قد يدفع هذه المحلات إلى الشفافية في البيع وتحسين جودة السلع والانتباه إلى رداءة منتجاتها عند مواجهة طلبات الإرجاع المتكررة ، وإذا سألها المحل عمّا إذا كانت قد استخدمته أم لا، فحتى تصل إلى حقها، يمكنها أن تقول "لا" ولا إثم عليها لأن مثل هذه العيوب لا يظهر إلا بالاستخدام ، كما يمكنها على سبيل الاحتياط أن تُواري، أي تسقط الكلمة على أمر آخر مثل أن تقصد بقولها "لم ألبسه" أنها لم تلبسه قبل الشراء، ففي التورية مندوحة عن الكذب بلا شك، وهي وسيلة شرعية للوصول إلى الحقوق دون الوقوع في محظور الكذب ، علما بأن الصدق هو الأصل في التعاملات التجارية، لأنه يعزز الأمانة ويحقق العدالة بين الطرفين، لكن في بعض الحالات التي يكون فيها المشتري مضطراً لتحقيق حقه، يمكنه استخدام التورية، التي تعتبر من وسائل الشريعة المشروعة لتجنب الكذب المباشر، بشرط أن تكون التورية لا تضر بالحقوق ولا تتضمن خداعاً.ولو لم يوجد دليلا لكفى في جواز ذلك مقصد دفع الضرر عن المشتري ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال فيمارواه ابن ماجه بإسناد حسن ، لا ضرر ولا ضرار . والله تعالى أعلى وأعلم .
Post A Comment: