سفينة نوح | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة


سفينة نوح | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة
سفينة نوح | بقلم الأديب المصري د. طارق رضوان جمعة 

 


سلاماَ على حواسنا القديمة، سلاماَ على ضمائرنا القويمة، سلاماَ على نوايانا السليمة... سلاماَ يحمل حقائبه. دعونا نعيد تشكيل الحواس. دعوها تخفف عن وجوهنا وطأة المداس، دعونا بأيدى تلمس ولا تعترض، دعونا بأعين ترى لا تميز ولا تفترض، دعونا بقلوب تنبض ولا تجترأ. فما عادت حواسنا تفيد شجب الاحتلال العنيد، وحولها هذا الصمت البغيض.

هنا بنى نوح السفينة، هنا صمت النداء فى دعوته، هنا بكى، هنا رجفة الإيمان فى سريرته، هنا خشى علينا الفرقة والانقسام، هنا وثقنا بقوله ان لا ظلم ولا ظلام ولا غرق، هنا وصف  لنا الجحيم بأنه قدر اليم حين صاح البعض منا يا نوح لم نعد نطيقك سنختار طريقاَ غير طريقك، وصرنا بعدها أصداف خاوية على شواطئء مهمله واهية،  هنا عرضى، هنا سلبونى مجدى وأرضى، هنا اعتدنا الجحيم على أيدى اعادينا نصرخ فى وجه الزمن فلا يجيبنا إلا  صدى صوتنا ، امجادنا نغمة تعزف فى غرفة خاوية لا أحد يسمعها ولا يراها إلا نحن كأنها شبح، فالذكريات غباراَ ونحن دخان فى سماء الكون لا يذرف أحد دمعاَ لغيابنا.

هنا الإبادة يا سادة طبق يومى تُقدم بملعقة  ومهارة شخص إعلامى، طبق عربى  شهى متبل بقليل من عبارات الأسف والتعاطف  والتحية بأفواه الأمة العربية. وجبة ترافقها موسيقى مزرية من قذف الطائرات والقنابل والصواريخ الحربية. أسلحة فتاكة فى كفة يقابلها صخور وأحجار جافة، وجبة على منضدة السلام ... سلام بلا وجه مميز كقمر نسى ملامحه فى ظلمة الليل البهيم حين كنا فى أشد الاحتياج لبصيص من النور، وتلك قهوة اعتدت أن اصنعها على رماد صاروخ قد أحترق وجعل بيوتنا اوهن من الورق. وتتسأل الرياح  " هل من خلاص؟ لتتوارى الاجابة دوما بين شقوق الأرض على استحياء ربما لتتركنا على امل ان الحياة ما زالت ممكنة.

عذاب عقيم كثير اليم، صراخ الأهات فى الشوارع والسجون والحارات. هنا حصى يحكى تاريخ الأحياء ويبكى سجل الشهداء. قبل موتهم ماتت فى جيوبهم قصائد، قصائد أبت الخروج للنور وسط السخرية من محمد والبتول، قصائد تحجرت فى الصدور فسكنت برغبتها القبور تنتظر بارقة من السرور، فكيف لصلاة دون وضؤ! كيف لعين أن تلمع دون نور! كيف لأرض ان تسعد وتبنت وعلى ظهرها تهان القبور!

غرباء عن كل شىء حولنا صرنا  نتمايل كالعشب لعلنا ننهض ولا ننكسر، فظن الجاهلون أننا نتراقص، نقاوم ، نداوم ، نواصل... فما عادت منازلنا ترحب بنا ( غرباء) وما عاد الطعام يرغب بنا( غرباء). لا تلك أيادينا ولا هذا فؤادنا ، كل الحواس تخجل وتتنكر لنا. رضينا بالاهانه وحصدنا المهانة. نحن من حملنا بيوتنا فوق ظهورنا، نوافذنا فوق اكتافنا، والأبواب بين اضلعنا... نمشى بهم ، ننام بهم. فلا يصدوا عنا الربح ولا هم لنا ماوى من العراء. عالقون نحن لا اشيائنا تعرفنا ولا اعضاؤنا تطيعونا غرباء كسؤال بلا إجابة، كطير بلا ماوى . نحن والانتظار رفقاء نترقب حدوث معجزة.

هنا نبتة خضراء تشق الأرض  كتنهبدة أولية لتعلن وعد خفى ان الخير قادم ، نبتة تنتشر بين الخيام فى شقوق الأرض كنبؤة  للخلاص ترمم ما هدمه الخوف وتعيد رسم الأمل. 

تلك مدننا تحيا على الخراب، تقتات على  الأحزان وتعجنها لتصنع من الهموم بيوتاَ أهون من بيوت العنكبوت. نخنق رائحة الدخان الصدور وتحرق ذكربات ، لتتناثر فى انف أطفال الحكايات القدبمة وتدفئ قلوبهم  فالذكريات ترفض ان تندثر.

فى كل منزل من منازلنا كرسى لشهيد بالجسد ميت وبالروح شاهد وشهيد على ما كان وما بكون يسمعنا، يرانا لكن بصمت وبلا جواب. تلك قصة مدينتى وهؤلاء شهودى فإذا  ما حضرت قصة مدينتى أصابت سائر المدن بالخجل.

Share To: