الوصية الواجبة عدل يتدارك ما فات، ورحمة تُنصف من غاب | بقلم: د. روحية مصطفى
![]() |
الوصية الواجبة عدل يتدارك ما فات، ورحمة تُنصف من غاب | بقلم: د. روحية مصطفى |
أتعجب من الجدل المثار اليوم حول مشروعية "الوصية الواجبة" للأحفاد، أولئك الذين توفي والدهم أو والدتهم في حياة الجد، سواء كانوا من جهة الابن أو الابنة.
فما الذي يُنكر في أن يُوصى لهؤلاء الصغار بجزء من تركة الجد، وقد انقطع عنهم ما كان لهم أن يرثوه من آبائهم لولا أن الموت سبقهم إليه؟
تخيلوا أن ابنًا أو ابنةً توفيا في حياة والدهم، وكان هذا الجدّ ثريًا ذا مال وفير، وترك بعده أحفادًا من ذلك الابن أو الابنة: أولادًا وبنات. أليس من الإنصاف، بل من الرحمة، أن يُجبر ما فقدوه بوصية تُردّ لهم بها بعض الحقوق المعنوية والمادية؟ أليس ذلك صلةً للرحم، ووفاءً لمن مضى، واحتضانًا لمن بقي؟
إن إنكار الوصية الواجبة من حيث المبدأ، دون نظر إلى مقاصدها أو آثارها الاجتماعية، يُعد جمودًا على ظاهر النصوص دون اعتبار للواقع المتغير واحتياجات الناس ، فالوصية الواجبة ليست ميراثًا مستحدثًا يُزاحم به أصحاب الفروض والأنصبة، بل هي جبر خاطر، وسدّ خَللٍ في البناء الأسري، ورحمةً يتجلّى فيها وجه من وجوه التكافل العائلي الذي حثّت عليه شريعتنا الغرّاء.
فمنطق العدل والرحمة الذي قامت عليه شريعة الإسلام يأبى أن يُحرَم الأحفاد من مال جدّهم، لمجرد أن القدر سبق والدهم أو والدتهم بالموت في حياة الجد ، كيف تستقيم العدالة إذا آلت الثروة كلها إلى الأعمام، وحُرم منها أبناء أخيهم الراحل، وكأنما يُعاقَب هؤلاء الصغار على موتٍ لم يختاروه؟إن في الوصية الواجبة تداركًا لهذا الخلل، ورحمةً تُضيء موضعًا قد يُظلم فيه النسب باسم الترتيب الوراثي المجرد.
إن القاعدة العادلة في الميراث أن الحق لا يُقطع من طرفٍ واحد، بل هو رابطة متبادلة بين المورّث والوارث. فلو قدّر أن الوارث توفي قبل المورّث، لكان هذا الأخير يرثه.
ومن المعلوم أن الأب يرث ابنه بإجماع العلماء، وإذا لم يكن الأب موجودًا، قام مقامه الجد. وبالقياس نفسه، فإن الأحفاد يقومون مقام أبيهم المتوفى في ميراث جدّهم، فيأخذون ما كان سيؤول إليه، ثم يُقسَّم نصيبه عليهم قسمةً شرعيةً عادلة ، بل إن هذه الصورة أولى وأقرب إلى العدل من الصورة المعاكسة ، فحاجة الأحفاد الصغار إلى المال في ظل غلاء المعيشة، وأعباء الحياة، أشدّ من حاجة الجدّ الذي بلغ من العمر مبلغًا يخف فيه الاحتياج وتتقلص فيه المسؤوليات.
وكما ورث الجد حفيده حال غياب الأب، فليقف الأحفاد مقام والدهم عند الجد، رحمةً وعدلًا وإنصافًا.
ومن أراد أن يطلب الدليل، فليعلم أن أدلته حاضرة في كتاب الله وسنّة رسوله، يكفي منها قوله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾ [سورة البقرة، الآية: 180 ،
فالنفع لا يُقاس دائمًا بالقرابة الزمنية، بل بالحاجة، والأثر، والرحمة المتبادلة.
أليس توريث الأولاد نصيب أبيهم الذي توفّي في حياة والده، أقرب للنفع، وأعظم في الأثر، وأبقى لصلة الرحم؟ أليس فيه جبرٌ لخاطر، وصونٌ لمظلمة؟
وليس يخفى على المتأمل أن كثيرًا من الاعتراضات حول الوصية الواجبة لا تنطلق من اجتهاد فقهي عميق، بل من دوافع بشرية أقرب إلى الطمع من إلى التقوى ، فكم من عمٍّ وقف حجر عثرة في وجه أبناء أخيه، لا طعنًا في شرع، بل حرصًا على ألا يُنازع في المال! ولو رآى هؤلاء الموقف في ميزان العدل، لما ضاقت صدورهم بأن يصل للأحفاد ما حُرم منه آباؤهم.
وقد أحسن المشرّع المصري صُنعًا حين جعل "الوصية الواجبة" حقًا مُلزِمًا للأحفاد، فإن حصلوا عليها برضا ذوي القربى، فبها ونعمت، وإن وقف في طريقها الطمع، فإن قوة القانون تُعيد الأمور إلى نصابها.
فكم من ابنٍ شارك والده في بناء ماله ثم توفي قبله، فجاءت التركة كاملةً للأعمام، وتُرك أولاده يُقاسون شظف العيش وحرمان العدالة.
وبما أن الله تعالى "يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن"، فقد كان تقنين الوصية الواجبة أمرًا حكيمًا، محققًا للمصالح، دافعًا للمفاسد؛ بشرط ألا يكون الجد قد منح الأحفاد – في حياته – نصيب أبيهم أو ما يُعادله، فإن ثبت ذلك بوثائق، سقطت الوصية. وإن كان قد وصلهم جزء منها، نُفّذت فيما تبقى، وإن لم يصلهم شيء، فهي واجبة لهم شرعًا وقانونًا.
بل إن من تمام البرّ والتقوى، أن يُبادر كل أب تُوفي له ابنٌ أو ابنة وترك من بعده أولادًا، أن يكتب لهم وصية بنصيب والدهم، ما دام على قيد الحياة.
وإن خاف عليهم من ظلم الأقارب، فليوثّق ذلك بوثائق قانونية تحفظ حقوقهم، وتُعلي كلمة العدل.
وقد قال الله تعالى: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ﴾
فكلمة "كُتِبَ" جاءت بصيغة الفرض، كما في قوله: ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾، ما يدل على أن الوصية للقرابة حقٌ إيماني، وواجب أخلاقي، لا يليق بالتقوى أن تغفل عنه، ولا بالرحمة أن تتجاهله.
Post A Comment: